آيات من القرآن الكريم

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُ الْمُخَاطَبُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا، وَأَبْهَمَ ذَلِكَ الَّذِي يَخْلُقُهُ ; لِتَعْبِيرِهِ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَكِنْ قَرِينَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْمَرْكُوبَاتِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِمَرْكُوبَاتٍ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ: كَالطَّائِرَاتِ، وَالْقِطَارَاتِ، وَالسَّيَّارَاتِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ إِشَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ». اهـ.
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا» ; فَإِنَّهُ قَسَمٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَتُتْرَكُ الْإِبِلُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ الْآنَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ رُكُوبِهَا بِالْمَرَاكِبِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ عُظْمَى، تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَتْ مُعْجِزَاتُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ.
وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُسَمَّى دَلَالَةَ الِاقْتَرَانِ، وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:

أَمَّا قِرَانُ اللَّفْظِ فِي الْمَشْهُورِ فَلَا يُسَاوِي فِي سِوَى الْمَذْكُورِ
وَصَحَّحَ الِاحْتِجَاجَ بِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَمَقْصُودُنَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا هُنَا أَنَّ ذِكْرَ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [١٦ ٨] فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ لَا يَقِلُّ عَنْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُرَادِ بِهَا بَعْضَ الْمَرْكُوبَاتِ، كَمَا قَدْ ظَهَرَتْ صِحَّةُ ذَلِكَ بِالْعِيَانِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُهُ خَلْقُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِالِامْتِنَانِ بِالْمَرْكُوبَاتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [٣٦ ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ، اعْلَمْ أَوَّلًا: «أَنَّ قَصْدَ السَّبِيلِ» [١٦ ٩] : هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الْقَاصِدُ، الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى الْمُزَنِيُّ:

صفحة رقم 335

صَحَا الْقَلْبُ عَنْ سَلْمَى وَأَقصَرَ بَاطِلُهُ وَعُرِّيَ أَفْرَاسُ الصِّبَا وَرَوَاحِلُهُ
وَأَقْصَرْتُ عَمَّا تَعْلَمِينَ وَسُدِّدَتْ عَلَيَّ سِوَى قَصْدِ السَّبِيلِ مَعَادِلُهُ
وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَمِنَ الطَرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدًى قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلِ
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ مِصْدَاقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَظْهَرُ عِنْدِي مِنَ الْآخَرِ. الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ مَعْنَى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ: أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ قَصْدُ السَّبِيلِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ: مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ، لَيْسَتْ حَائِدَةً، وَلَا جَائِرَةً عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَإِلَى مَرْضَاتِهِ، (وَمِنْهَا جَائِرٌ) أَيْ: وَمِنَ الطَّرِيقِ جَائِرٌ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، بَلْ هُوَ زَائِغٌ وَحَائِدٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، وَقَوْلُهُ: (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَمِنْهَا جَائِرٌ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، أَيْ: عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَقَوْلُهُ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمِنْهَا جَائِرٌ)، غَيْرُ وَاضِحٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمِنَ الطَّرِيقِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ الَّذِي نَهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ سُلُوكِهِ. وَالْجَائِرُ: الْمَائِلُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَالْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَارِيَانِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى...) الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ هِدَايَةَ جَمِيعِ خَلْقِهِ لَهَدَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ:

صفحة رقم 336
أضواء البيان
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي
سنة النشر
1415
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية