آيات من القرآن الكريم

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ

بعض دلائل التوحيد وأنواع النعم والفضل الإلهي
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
البلاغة:
ظَعْنِكُمْ إِقامَتِكُمْ يَعْرِفُونَ يُنْكِرُونَها بين كل اثنين طباق.
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ فيه إيجاز بالحذف، أي والبرد، حذف الثاني استغناء بالأول.
المفردات اللغوية:
سَكَناً أي مسكنا تسكنون فيه. بُيُوتاً كالخيام. تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفيفة للحمل والنقل. ظَعْنِكُمْ سفركم، والظعن بسكون العين أو فتحها: سير أهل البادية لطلب الماء والمرعى. وَمِنْ أَصْوافِها الغنم. وَأَوْبارِها الإبل. وَأَشْعارِها المعز. أَثاثاً متاع البيوت، كالفرش والثياب وغيرها. وليس للأثاث واحد من لفظه وَمَتاعاً ما يتمتع وينتفع به، وهو ما يتّجر به. إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من البيوت والشجر والغمام. ظِلالًا جمع ظل: وهو ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها، للوقاية من حر الشمس. أَكْناناً جمع كنّ:
وهو ما يستكن فيه وهو الغار في الجبل والسرب أو النفق. سَرابِيلَ جمع سربال: وهو القميص

صفحة رقم 196

من القطن والكتّان والصوف وغيرها، وسرابيل الحرب: الدروع، والسربال يعم كل ما يلبس تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي والبرد. بَأْسَكُمْ المراد هنا حربكم، أي تقيكم الطعن والضرب وهي الدروع.
والبأس في الأصل: الشدة. كَذلِكَ كإتمام هذه النعم التي تقدمت. يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدنيا، بخلق ما تحتاجون إليه. لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم. تُسْلِمُونَ توحدون الله، أي لعلكم تنظرون في نعم الله، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه.
سبب النزول: نزول الآية (٨٣) :
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله، فقرأ عليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ قال: نعم: ثم قرأ عليه كل ذلك، وهو يقول: نعم، حتى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي، فأنزل الله:
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ.
المناسبة:
هذه باقة أخرى من فضائل الله ونعمه على بني آدم، ومن دلائل التوحيد، فبعد أن ذكر الله تعالى ما منّ به على الناس من خلقهم وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم، من أمور أخرى غير دوابهم، من بيوت السكن المبنية من الحجارة وغيرها، والخيام أو بيوت الشعر المصنوعة من جلود الأنعام، والأصواف والأوبار والأشعار التي تصنع منها الملابس والأثاث (المفروشات) والأمتعة التي يتجر بها ويعاش من أرباحها، والحصون والقلاع والمعاقل في الجبال، والثياب الواقية من الحر والبرد، والدروع والجواشن «١» الحامية من السلاح في الحرب.

(١) الجواشن: جمع جوشن وهو الدرع. [.....]

صفحة رقم 197

التفسير والبيان:
هذا امتنان آخر بما أنعم الله على عبيده بالإيواء في المساكن فقال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ.. أي والله جعل لكم بيوتا هي سكن لكم، تأوون إليها، وتسترون بها، وتنتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ.. أي وجعل لكم أيضا من جلود الأنعام المعروفة بيوتا أي من الأدم، في السفر والحضر، تستخفون حملها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم، وهي الخيام والقباب، يخف حملها عليكم في الأسفار.
وجعل من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز ما تتخذونه أثاثا لبيوتكم، تكتسون به، وتنتفعون به في الغطاء والفراش، وجعل لكم منها متاعا تتمتعون به من جملة الأموال والتجارات، إلى أجل مسمى وزمن معين في علم الله، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتّخذ مالا وتجارة، وهذا كله بحسب عرف العرب في الماضي، وإن تغير الحال اليوم. فالأثاث: متاع البيت من الفرش والأكسية.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي ومن نعمه تعالى أن جعل لكم من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس، وشدة عصف الرياح.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها، تأمنون فيها من العدو أو حر الشمس أو البرد.
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ.. أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتّان والصوف ونحوها، تقيكم شدة الحر، أي والبرد، لكن ذكر الحر لحاجة العرب في بلادهم الحارة إلى اتقاء الحر، وما يقي الحر يقي البرد.

صفحة رقم 198

وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي وجعل لكم دروعا من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك، تقيكم البأس والشدة في الحرب والطعن والضرب ورمي النبال، واليوم تقي شظايا القنابل.
كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.. أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وحوائجكم، ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته، أو مثل ذلك الإتمام بهذه النعم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ونعمة الدنيا والآخرة.
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يا أهل مكة، أي لتدخلوا في حظيرة الإسلام، وتؤمنوا بالله وحده، وتتركوا الشرك وعبادة الأوثان، فتدخلوا جنة ربكم، وتأمنوا عذابه وعقابه.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما.. أي فإن أعرضوا بعد هذا البيان، وتعداد النعم، فليس عليك شيء، إنما عليك فقط البلاغ لرسالتك، الموضح لمهمتك، المفسر لأصول الاعتقاد ومقاصد الدين، وأسرار التشريع، وقد أديت ذلك، أي إن أعرضوا فلست بقادر على إيجاد الإيمان في نفوسهم، إن عليك إلا البلاغ فحسب.
وسبب هذا الإعراض هو ما قاله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ.. أي يعرفون أن الله تعالى هو المنعم عليهم بهذه النعم، المتفضل بها عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم، ويعبدون معه غيره، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره، إذ يقولون:
إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام، فلم يخصوه تعالى بالشكر والعبادة، بل شكروا غير الله تعالى.
وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي وأكثرهم الجاحدون المعاندون، وأقلهم المؤمنون الصادقون. وإنما قال أَكْثَرُهُمُ لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا، بل جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله.

صفحة رقم 199

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على طائفة من النعم التي أنعم الله بها على الناس وهي ما يأتي:
١- الآية الأولى فيها تعداد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر بيوت المدن أولا، وهي للإقامة الطويلة، ثم ذكر بيوت البدو والأعراب والرعاة، وهي بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف.
٢- وفي الآية الأولى أيضا أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، وفي آية أخرى أذن في الأعظم من ذلك وهو ذبحها وأكل لحومها.
ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدّد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا بما عرفوا وألفوا.
والآية بعمومها دلت على جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، حتى إن المالكية والحنفية قالوا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ. ويؤيدهم
حديث أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ، وصوفها وشعرها إذا غسل».
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس: «أيما إهاب دبغ فقد طهر».
وزاد أبو حنيفة فقال: القرن والسّن والعظم مثل الشعر لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها، فلا تنجس بموت الحيوان. وقال باقي الأئمة: إن ذلك نجس كاللحم.
وأجاز الزهري والليث بن سعد الانتفاع بجلود ميتة الأنعام، وإن لم تدبغ لأن قوله تعالى: مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ عام في جلد الحي والميت. وخالفهما جمهور العلماء في ذلك.

صفحة رقم 200

والظاهر من مذهب مالك: أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلّى عليه، ولا يؤكل فيه. وأكثر المدنيين وأكثر أهل الحجاز والعراق على إباحة ذلك وإجازته،
للحديث المتقدم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر».
وذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء، وإن دبغت لأنها كلحم الميتة، واحتج
بحديث عبد الله بن عكيم عند أبي داود: «ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب».
وخالفه بقية الأئمة
لحديث شاة ميمونة:
الذي رواه عنها أبو داود والنسائي «لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال:
يطهرها الماء والقرظ»
.
والمشهور عند المالكية أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث، ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي والأوزاعي وأبي ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. أما جلد الكلب وما لا يؤكل لحمه فغير معهود الانتفاع به، فلا يطهر.
٣- دلت الآية الثانية على نعمة الظل والظلال: وهو كل ما يستظل به من البيوت والشجر، وعلى نعمة الأكنان جمع كنّ: وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهي المغاور والكهوف في الجبال، يأوي إليها الناس في البراري، ويتحصنون بها من الأمطار والسيول والأعاصير وغير ذلك.
ودلت أيضا على نعمة السرابيل أي القمص، والدروع التي تقي الناس في الحرب.
وفي قوله تعالى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ دليل على اتخاذ العباد عدّة الجهاد، ليستعينوا بها على قتال الأعداء.
ودل آخر الآية: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ على إكمال نعم الله وأفضاله بإتمام نعمة الدين والدنيا والآخرة.

صفحة رقم 201
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية