
رجل سليم الحواس عاقل ينفع نفسه وينفع غيره، يأمر الناس بالعدل وهو على سيرة صالحة ودين قويم- هل يستويان؟
كذلك الصم لا يسمع شيئا ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع من خدمه، ولا دفع ضر عنه، وهو كلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه، وهو لا يعقل ما يقال له فيأتمر بالأمر، ولا ينطق فيأمر وينهى، هل يستوى هو ومن يأمر بالحق ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته! وهو مع أمره بالعدل على طريق مستقيم لا يعوجّ عن الحق ولا يزول عنه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
تفسير المفردات
الساعة: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان فى ساعة ما فيموت الخلق بصيحة واحدة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، والأفئدة واحدها فؤاد: وهى القلوب التي هيأها الله للفهم وإصلاح البدن، والجو: الهواء بين الأرض والسماء.

المعنى الجملي
بعد أن مثّل سبحانه نفسه بمن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومستحيل أن يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة- أردف ذلك ما يدل على كمال علمه، فأبان أن العلم بغيوب السموات والأرض ليس إلا له، وما يدل على كمال قدرته، فذكر أن قيام الساعة فى السرعة كلمح البصر أو أقرب، ثم عاد إلى ذكر الدلائل على توحيده، وأنه الفاعل المختار، فذكر منها خلق الإنسان فى أطواره المختلفة، ثم الطير المسخّر بين السماء والأرض، وكيف جعله يطير بجناحين فى جو السماء ما يمسكه إلا هو بكامل قدرته.
الإيضاح
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب عن أبصاركم فى السموات والأرض مما لا اطلاع لأحد عليه إلا أن يطلعه الله، والمراد به جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين التي لا سبيل إلى إدراكها حسا ولا إلى فهمها عقلا.
(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي وما شأنها فى سرعة المجيء إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأنه إنما يكون بقول (كُنْ فَيَكُونُ).
ونحو الآية قوله «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» أي فيكون ما يريد كطرف العين.
وقريب من هذا قوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ».
والخلاصة- إن قيام القيامة ومجىء الساعة التي ينتشر فيها الخلق للوقوف فى موقف الحساب- كنظرة من البصر، وطرفة من العين فى السرعة.
وخص قيام الساعة من بين الغيوب، لأنه قد كثرت فيه المماراة فى جميع

الأزمنة والعصور، ولدي كثير من الأمم، فأنكره كثير من البشر وجعلوه مما لا يدخل فى باب الممكنات.
ثم ذكر ما هو كالبرهان على إمكان حدوثها وسرعة وقوعها فقال:
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله قادر على ما يشاء، لا يمتنع عليه شىء أراده، فهو قادر على إقامتها فى أقرب من لمح البصر.
ثم ذكر سبحانه مننه على عباده بإخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم رزقهم السمع والأبصار والأفئدة فقال:
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله جعلكم تعلمون ما لا تعلمون بعد أن أخرجكم من بطون أمهاتكم، فرزقكم عقولا تفقهون بها، وتميزون الخير من الشر، والهدى من الضلال، والخطأ من الصواب، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به فيما بينكم، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها، وتميزون بعضها من بعض، والأشياء التي تحتاجون إليها فى هذه الحياة، فتعرفون السبل، وتسلكونها للسعى على الأرزاق والسلع لتختاروا الجيد وتتركوا الرديء، وهكذا جميع مرافق الحياة ووجوهها.
لعلكم تشكرون: أي رجاء أن تشكروه باستعمال نعمه فيما خلقت لأجله، وتتمكنوا بها من عبادته تعالى، وتستعينوا بكل جارحة وعضو على طاعته.
روى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تعالى: من عادى لى وليّا فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن دعانى لأجبته، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت