آيات من القرآن الكريم

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٩]

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ وَالتَّدْلِيلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ وَعَلَى لُطْفِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَوْهِبَةَ الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الَّتِي بِهَا تَحْصِيلُ الْمَنَافِعِ وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ نَبَّهَ النَّاسَ إِلَى لُطْفٍ يُشَاهِدُونَهُ أَجْلَى مُشَاهَدَةً لِأَضْعَفِ الْحَيَوَانِ، بِأَنَّ تَسْخِيرَ الْجَوِّ لِلطَّيْرِ وَخَلْقِهَا صَالِحَةً لِأَنْ تُرَفْرِفَ فِيهِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ هُوَ لُطْفٌ بِهَا اقْتَضَاهُ ضَعْفُ بِنْيَاتِهَا، إِذْ كَانَتْ عَادِمَةً وَسَائِلَ الدِّفَاعِ عَنْ حَيَاتِهَا، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا سُرْعَةَ الِانْتِقَالِ مَعَ الِابْتِعَادِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يَعْدُو عَلَيْهَا مِنَ الْبَشَرِ وَالدَّوَابِّ.
فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي مَضْمُونِهَا نِعْمَةٌ عَلَى الْبَشَرِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، بِخِلَافِ نَظِيرَتِهَا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [١٩] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ فَإِنَّهَا عُطِفَتْ عَلَى آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: ٥]، ثُمَّ قَالَ: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الْملك: ٦] ثُمَّ قَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [سُورَة الْملك: ١٦] ثُمَّ قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ الْآيَةَ. وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى عُقِّبَتْ هَذِهِ وَحْدَهَا بِجُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وَالتَّسْخِيرُ: التَّذْلِيلُ لِلْعَمَلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْجَوُّ: الْفَضَاءُ الَّذِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهُ يَبْدُو مُتَّصِلًا بِالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ فِي مَا يَخَالُ النَّاظِرُ.
وَالْإِمْسَاكُ: الشَّدُّ عَنِ التَّفَلُّتِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

صفحة رقم 234

وَالْمُرَادُ هُنَا: مَا يُمْسِكُهُنَّ عَنِ السُّقُوطِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ دُونِ إِرَادَتِهَا، وَإِمْسَاكُ اللَّهِ إِيَّاهَا خَلْقُهُ الْأَجْنِحَةَ لَهَا وَالْأَذْنَابَ، وَجَعْلُهُ الْأَجْنِحَةَ وَالْأَذْنَابَ قَابِلَةً لِلْبَسْطِ، وَخَلْقُ عِظَامِهَا أَخَفَّ مِنْ عِظَامِ الدَّوَابِّ بِحَيْثُ إِذَا بَسَطَتْ أَجْنِحَتَهَا وَأَذْنَابَهَا وَنَهَضَتْ بِأَعْصَابِهَا خَفَّتْ خِفَّةً شَدِيدَةً فَسَبَحَتْ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَصْلُحُ ثِقَلُهَا لِأَنْ يَخْرِقَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْهَوَاءِ إِلَّا إِذَا قَبَضَتْ مِنْ أَجْنِحَتِهَا وَأَذْنَابِهَا وَقَوَّسَتْ أَعْصَابَ أَصْلَابِهَا عِنْدَ إِرَادَتِهَا النُّزُولَ إِلَى الْأَرْضِ أَوِ الِانْخِفَاضَ فِي الْهَوَاءِ. فَهِيَ تَحُومُ فِي الْهَوَاءِ كَيْفَ شَاءَتْ ثُمَّ تَقَعُ مَتَى شَاءَتْ أَوْ عَيِيَتْ.
فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا اسْتَمْسَكَتْ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ إِمْسَاكًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ لُطْفٌ بِهَا.
وَالرُّؤْيَةُ: بَصَرِيَّةٌ. وَفِعْلُهَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ إِلَى لِتَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى (يَنْظُرُوا).
ومُسَخَّراتٍ حَالٌ. وَجُمْلَةُ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧٨].
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ أَلَمْ تَرَوْا بِتَاءِ الْخِطَابِ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الْمَذْكُورِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. مَعْنَاهُ: إِنْكَارُ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمُ الطَّيْرَ مُسَخَّرَاتٍ فِي الْجَوِّ بِتَنْزِيلِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الرُّؤْيَةِ مِنْ إِدْرَاكِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَرْئِيُّ مِنِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ: أَكَانَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِدَلَالَةِ رُؤْيَةِ الطَّيْرِ عَامًّا فِي الْبَشَرِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَدِلُّونَ مِنْ ذَلِكَ بِدَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.

صفحة رقم 235
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية