
وعليهن تدبير معايشكم، وجعل لكم مهن بنين وحفدة أي أولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء.
(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقكم من لذيذ المطاعم والمشارب، وجميل الملابس والمساكن ما تنتفعون به إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات.
(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي أفهم بعد هذا البيان الواضح، والدليل الظاهر، يوقنون بأن الأصنام شركاء لربهم ينفعونهم ويضرونهم ويشفعون لهم عنده، وأن البحائر والسوائب والوصائل حرام عليهم كما حرمها لهم أولياء الشيطان؟.
وليس بعد هذا تأنيب وتوبيخ، إذ ساقه مساق ما فيه الشك وطلب منهم الجواب عنه.
(وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ؟) أي وهم بهذه النعم المتظاهرة عليهم من ربهم يكفرون فيضيفونها إلى غير الخالق، وينسبونها إلى غير موجدها من صنم أو وثن؟
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)

تفسير المفردات
رزق السماء: المطر، ورزق الأرض: النبات والثمار التي تخرج منها، فلا تضربوا لله الأمثال: أي لا تجعلوا له الأنداد والنظراء فهو كقوله: «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» وضرب المثل للشىء: ذكر الشبيه له، ليوضح حاله المبهمة ويزيل ما عرض من الشك فى أمره، والبكم: الخرس، وهو إما ناشىء من صمم خلقى وإما لسبب عارض ولا علة فى أذنيه، فهو يسمع لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم، لأن الكلام بعد السماع، ولا سماع له، وليس كل أبكم يكون أصم صمما طبيعيا، فإن بعض البكم لا يكونون صمّا، والكلّ: الغليظ الثقيل من قولهم كلّت السكين إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكلّ عن الأمر: ثقل عليه فلم يستطع عمله يوجهه:
أي يرسله فى وجه معين من الطريق، يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه، على صراط مستقيم: أي طريق عادل غير جائر.
المعنى الجملي
بعد أن بين عزت قدرته دلائل التوحيد البيان الشافي فيما سلف- أردف ذلك الرد على عابدى الأوثان والأصنام، فضرب لذلك مثلين يؤكد بهما إبطال عبادتها:
أولهما العبد المملوك الذي لا يقدر على شىء، والحر الكريم الغنى الكثير الإنفاق سرا وجهرا، ولفت النظر إلى أنهما هل يكونان فى نظر العقل سواء مع تساويهما فى الخلق والصورة البشرية؟ وإذا امتنع ذلك فكيف ينبغى أن يسوى بين القادر على الرزق والإفضال، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر.
والثاني مثل رجلين أحدهما أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير وهو عبء ثقيل على سيده، وثانيهما حوّل قلّب ناطق كامل القدرة، أيستويان لدى أرباب الفكر مع استوائهما فى البشرية؟ وإذا فكيف يدور بخلد عاقل مساواة الجماد برب العالمين فى الألوهية والعبادة؟.

قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد ابن أبى العاص: كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف.
الإيضاح
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانا لا تملك لهم رزقا من السموات، فلا تقدر على إنزال القطر منها لإحياء الميت من الأرضين، ولا تملك لهم رزقا منها، فلا تقدر على إخراج شىء من نباتها ولا ثمارها، ولا على شىء مما ذكر فى سالف الآيات مما أنعم الله به على عباده، ولا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم.
وفائدة قوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن من لا يملك شيئا قد يكون فى استطاعته أن يتملكه بوجه، فبين بذلك أن هذه الأصنام لا تملك وليس فى استطاعتها تحصيل الملك.
وبعد أن بين ضعفها وعجزها رتب على ذلك ما هو كالنتيجة له فقال:
(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي فلا تجعلوا لله مثلا ولا تشبّهوه بخلقه، فإنه لا مثل له ولا شبيه.
أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية: أي لا تجعلوا معى إلها غيرى، فإنه لا إله غيرى.
ثم هددهم على عظيم جرمهم، وكبير ما اجترحوا من الكفر والمعاصي فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن الله يعلم كنه ما تفعلون من الإجرام وعظيم الآثام، وهو معاقبكم عليه أشد العقاب، وأنتم لا تعلمون حقيقته ولا مقدار عقابه ومن ثم صدر ذلك منكم وتجاسرتم عليه ونسبتم إلى الأصنام ما لم يصدر منها ولا هى منه فى قليل ولا كثير.

وبعد أن نهاهم سبحانه عن الإشراك أعقبه بمثل يكشف عن فسادما ارتكبوه من الحماقات والجهالات فقال:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) أي إن مثلكم فى إشراككم بالله الأوثان، مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وحرّ مالك ما لا ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كما يريد، والفطرة الأولى تشهد بأنهما ليسا سواء فى التجلة والاحترام، مع استوائهما فى الخلق والصورة- فكذلك لا ينبغى لعاقل أن يسوّى بين الإله القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شىء البتة.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي الحمد الكامل لله خالصا دون ما تدعون من دونه من الأوثان، فإياه فاحمدوا دونها، ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، فليس للأوثان عندكم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء الكفار الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلهم بما يأتون وما يذرون يجعلونها لله شركاء فى العبادة والحمد.
ثم ضرب مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح فقال:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي ضرب الله مثلا لنفسه والآلهة التي يعبدونها من دونه مثل رجلين أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم، فلا يقدر على شىء مما يتعلق بنفسه أو بغيره، وهو عيال على من يعوله ويلى أمره، حيثما يرسله مولاه فى أمر لا يأت بنجح ولا كفاية مهمّ- وثانيهما