
جعلكم عقلاء علماء، فمن يملك هذا ويقدر على هذا، يقدر على الإحياء بعد الموت والبعث بعد الفناء.
أو يذكر هذا؛ ليعلموا أنه لم يكن المقصود بخلقهم الفناء خاصة، لكن لأمر آخر قصد بخلقهم، وهو ما ذكر فيما تقدم من أنواع النعم وتسخير ما ذكر من الأشياء لهم ليعلموا أن المقصود في خلقهم لم يكن الفناء خاصة؛ إذ لو كان الفناء خاصة لم يحتج إلى ما خلق لهم من الأغذية والنعم التي أنشأ لهم والأشياء التي سخرها لهم.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ) وكنتم نطفًا أمواتًا فأحياكم، ثم يتوفاكم أطفالا وشيوخًا، ومنكم من يعمر إلى أرذل العمر، يقول: يرده بعد قوة وعلم وتدبير الأمور إلى الخرف والجهل بعد العلم ليبين لخلقه أن العمر والرزق ليس بهما ربي وقوي؛ لأنهما ثابتان ثم يبلى ويفنى بهما ويرجع إلى الجهل، ولكن بلطف من اللَّه وتدبير منه، لا بالأغذية، واللَّه أعلم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) بما دبر في خلقه مما يدركون به قدرة خالقهم، وتصريفه الأمور، وبما يكونون به حكماء وعلماء أن الذي دبرها حكيم قدير على ما شاء، والحكمة فيما ذكر من تفريق الآجال ليكونوا أبدًا خائفين راجين؛ لأنه لو كانت آجالهم واحدة يأمنون ويتعاطون المعاصي على أمنٍ، لما يعلمون وقت نزول الموت بهم.
والثاني: ليعلموا أن التدبير في أنفسهم وملكهم لغيرهم لا لهم؛ لأن التدبير والأمر لو كان إليهم لكان كل منهم يختار من الحال ما هو أقوى وآكد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
قال بعض أهل التأويل: يذكر هذا مقابل ما أشركوا خلقه وعباده في ألوهيته وعبادته، يقول: فضل اللَّه بعضكم على بعض في الرزق والأموال حتى بلغوا السادة والموالي فلا ترضون أن يكون عبيدكم ومماليككم شركاء في ملككم وأموالكم، فكيف ترضون لله أن يكون عبيده ومماليكه شركاء، إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: (فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أغنى بعضكم، وأفقر بعضًا، وجعل منكم أحرارًا وعبيدًا (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) بالغنى والتمليك (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ

عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) من عبيدهم (فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) إذ يستوي المولى وعبده فيما ملكت يمينه، يقول: فليس أحد منكم يرضى أن يكون عبده بمنزلته فيما يملك سواء، فإذا رأيتم أنتم ذلك نقصا بكم لو فعلتم، فكيف زعمتم أن اللَّه أشرك بينه وبين أحجار حتى أشركتم ما ملككم اللَّه بينه وبين الأوثان في العبادة وفيما آتاكم من رزق، فقلتم: هذا لله، وهذا لشركائنا (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) يقول أنعم اللَّه عليهم بأنفسهم وأرزاقهم وأموالهم وأولادهم، فأشركوا غير اللَّه فيها، وجحدوا نعمة اللَّه عليهم بها عصوا، وبها كفروا، ثم ألزمهم النظر في الفضل الذي ذكر أنه فضل بعضهم على بعض إلى عين الفضل الذي كان من اللَّه، لا إلى الأسباب التي اكتسبوها، ليعلموا أنهم لم ينالوا تلك الفضائل باستحقاق منهم، ولكن إنما نالوا بفضل منه ورحمة، فيكون ذلك دليلا لهم فيما أنكروا من أفضال اللَّه، واختصاصه بعضهم بالرسالة والنبوة، وإن كانوا جميعًا من بشر، ومن جنس واحد على ما فضل بعضهم على بعض في الرزق، والسعة، والملك، والحرية والسلطان، وإن كانوا جميعًا في الجنس واحد، فإذا لم تنكروا هذا النوع من الفضل والاختصاص لبعض على بعض، فكيف أنكرتم ذلك الفضل والاختصاص بالرسالة من فضله ورحمته، فلذلك قال - واللَّه أعلم -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، أخبر أنه برحمته وفضله ينال ما ينال من الرسالة وغيرها، لا بالاستحقاق والاستيجاب كان منهم، أو أن يذكر سفههم بأنهم يأنفون أن يشركوا عبيدهم ومماليكهم في ملكهم وأموالهم ولهم بهم منافع من الخدمة والإعانة في الأمور، فما بالهم يشركون أحجارًا وخشبا، لا منفعة لأحد منهما في ألوهية اللَّه وربّوبيته وفي عبادته: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) على تأويل النبوة بفضل اللَّه وبرحمته يجحدون أنه لا يفضل بعضا على بعض بالرسالة، أو يجحدون ما آتاهم اللَّه من النعم، فيصوفون نعمه إلى غيره، وهي الأصنام التي عبدوها، فقالوا: هذا لشركائنا، أو يصرفون شكر نعمه إلى غيره، وهي الأوثان التي عبدوها، واللَّه أعلم.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ