قال تعالى «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ» كراهية الإناث ووأدهن خشية العار أو الفقر «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى» نزاهته عن ذلك وتعاليه وغناه عن العالمين أجمع، وهذه الجملة لم تكرر في القرآن إلا في الآية ٢٧ من سورة الروم الآتية «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المتمتع في كبريائه الغالب، الغير محتاج لأحد من خلقه «الْحَكِيمُ» ٦٠ في إمهال عباده المتطاولين عليه لأمر يعلمه لأنه لا يؤاخذهم على ما يبدر منهم من الظلم والتعدي حالا بل بمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ» مثل هذا وأشباهه «ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» بل لدمّر كل من على الأرض حالا «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» لإيمان من يؤمن منهم وإصرار من بصر «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ٦١ عنه لحظة، وهذه الآية ونظيرتها في المعنى الآية ٤٥ من سورة فاطر في ج ١ عامة في كل ظالم مخصوصتين في قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) الآية ٣٥ من سورة فاطر المذكورة، لأن في جنس الناس يدخل الأنبياء والصالحون ومن لا يطلق عليهم اسم الظلم، فاتقوا الله أيها الظلمة فلا تحملوا أوزاركم وأوزار غيركم بظلمكم، فقد يهلك بظلمكم وشؤمكم خلق كثير لا دخل لهم في أعمالكم، وقد فعل الله تعالى ذلك في قوم نوح عليه السلام عدا من كان في السفينة وأدخل الدواب التي لا تعقل بالهلاك عقوبة لكم، لأن أكثرها مخلوقة لمنافعكم وأنتم تظلمون أنفسكم وتتجاوزون حقوق الله وتتعدون حدوده. واعلم أن البلاء قد يعم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية ١٥ من سورة الأنفال في ج ٣، قال أبو هريرة: إن الحيارى لتهلك في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم. واعلموا أن الله لو يؤاخذكم بما يقع منكم لا نقطع نسلكم ولم يبق على وجه الأرض أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
«وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» لأنفسهم، وهذا بمقابلة قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) في الآية المارة ٥٧ «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ» مع ذلك إذ يتمنون «أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» العاقبة الحسنة عند الله وهي الجنة في الآخرة وهو كذب محض
وافتراء على الله، وهذا ردّ لقول الخبيث منهم (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الآية ٥٠ من سورة فصّلت المارة والآية ٣٦ من سورة الكهف أيضا.
قال تعالى «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» في الآخرة لا شيء لهم غيرها «وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» ٦٢ معجلون إليها، والفرط التقدم إلى الماء قبل القوم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض، لأنه صلّى الله عليه وسلم يقف على حوضه الكوثر يوم القيامة ويرد عليه المؤمنون به. قال تعالى «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة «فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» كما زين لقومك أعمالهم القبيحة بالفاء الوسوسة إليهم وقبولها منهم وإلا ففي الحقيقة إن المزين هو الله تعالى، راجع الآية ٣٩ من سورة الحجر المارة والآية ٣٥ المارة من هذه السورة، والذين يتبعون ما يزين لهم الشيطان رغبة به «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ» في الدنيا التي هم فيها لأن اليوم المعروف معروف في زمان الحال كالآن وصدر بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، ويسمى مثل هذا حكاية الحال الماضية، وهو استعارة من الحضور الخارجي إلى الحضور الذمني، والمراد به مدة الدنيا، لأنها كلها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة، وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ٦٣ في الآخرة لكفرهم بالله واتخاذهم أولياء من دونه. قال تعالى «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» يا محمد «إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» من البعث وغيره لا لعة أخرى وهذا معنى الاستثناء المفرغ أي ما أنزلناه إلا لهذه الغاية، وهذه الآية قريبة في المعنى من الآية ٣٩ المارة قبلها، ولقوله تعالى في الآية ٤٤ المارة أيضا وتشمل كل شيء اختلفوا فيه من أمر الدين والدنيا، لأنه داخل ضمنها «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ٦٤ به فينتفعون بهديه ورشده أما غير المؤمنين فلن ينتفعوا به وهو عليهم عمى، راجع الآية ٤٤ من سورة فصلت المارة «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» جدبها ويبسها لأنه موت بحقها «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة «لَآيَةً» دالة على البعث للإنسان بعد موته بالنسبة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ٦٥ آيات الله سماع قبول فيعونها ويتدبرونها ويعقلون ما فيها، لأن
سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع، بل لا بدّ من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية ٢٢ من سورة فاطر في ج ١.
مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:
هذا وبعد أن عدد الله تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ» المار ذكرها بصدر هذه السورة «لَعِبْرَةً» كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها، ثم بين هذه العبرة بقوله «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية ٢٣ في نظير هذه الآية، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها، قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى | وقلنا للنساء بها أقيمي |
فيها خطوط من سواد وبلق | كأنه في الجلد توليع البهق |
«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» الفرث في الكرش ما دام فيها، نخرج «لَبَناً خالِصاً» من شوائب الكدورة، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا، بدلالة قوله «سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» ٦٦ لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير، ذلك تدبير الحكيم صفحة رقم 232
القدير الذي هو بكل شيء خبير. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) وهو كذلك، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا.
وقرىء سيغا بالتخفيف والتشديد، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة.
هذا، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان حيوانا، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول، فيجذب بقدرة الله تعالى الصافي إلى الكبد، والكثيف إلى الأمعاء، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى، ومنها إلى المثانة، ويذهب الدم في العروق، وهي الأوردة الثابتة في الكبد، فيحصل الهضم الثالث، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه.
هذا مصير الصافي من الغذاء، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور، لأن القوة الجاذبة من أمر الله، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها. وأما الكثيف الذي نزل الى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن الله تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما بضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وكان نوح عليه السلام يقول الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه. والله أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال الله لا تعلل، ولعل الله تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات الله تعالى، وكيفية
تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه:
حكم حارت البرية فيها... وحقيق بأنها تحتار
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما. هذا، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته، وتمام حكمته، وتناهي رحمته بعباده، وغاية رأفته بهم، قسرا، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ» لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ» من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم «سَكَراً» مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة، وخمرا بلغة العرب، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به، قال الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم... إذا مجرى فيهم المزاء والسكر
والمزاء نوع من الأشربة المسكرة. قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما، وما لا يسكر من الأنبذة، لأن الله تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل. وقال ابن عباس: هو الخلّ بلغة الحبشة، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال حرم الله الخمر بعينها القليل منها والكثير. والسكر بضم السين من كل شراب، أخرجه الدارقطني.
والى حل شرب النبيذ إلى ما دون الإسكار، وذهب إبراهيم النخعي وأبو جعفر والطحاوي وسفيان الثوري، وأجازه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إذا لم يسكر، أما الخمرة فقليلها وكثيرها حرام، أسكرت أو لم تسكر. قال تعالى «وَرِزْقاً حَسَناً» كالتمر والزبيب والعنب والدبس والأشربة المتخذة منهما التي تشرب آنيّا والخل أيضا.
مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي:
هذا وفي وصفه تعالى الرزق الحاصل منهما بالحسن يفيد أن السكر غير حسن، وأن التمييز بين السكر وبين الرزق الحسن في الذكر، عدّه، أي السكر غير حسن، وذلك يدل على التحريم الذي سينزله بعد في القسم المدني، ولهذا عرض على قبح تناوله لعدم وصفه بالحسن ورمز إلى أن السكر وإن كان مباحا إذ ذاك فهو مما يحسن اجتنابه، وهذه أول آية نزلت في الخمر على القول بأن المراد بالسكر الخمر، ولهذا فلا وجه للقول بأن هذه الآية منسوخة، لأنها ذكرت في معرض تعداد نعم الله على عباده، وكان نزولها بزمن مباح فيه شربها، لأن التحريم طرأ بصورة تدريجية، فضلا عن أن السكر يحتمل معاني كثيرة كما مر آنفا، والنسخ يقتضي أن يكون صريحا لشيء صريح لا يحتمل التأويل والتفسير، بخلاف ما هنا، وقد ألمعنا في المقدمة بأن هذه الآية أول آية أنزلت في الخمر مطلقا، ولم ينزل غيرها في مكة، وان الآيات الثلاث في البقرة والنساء والمائدة نزلن في المدينة، وسنوضح هذا البحث في الآيات ٢٢٠ و ٤٣ و ٩٤ من السور المذكورة على طريق اللف والنشر المرتب فراجعها «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من النعم «لَآيَةً» باهرة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٦٧ أن لهذه الأشياء خالقا مدبرا ومبدعا حكيما. قال تعالى «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» ٦٨ من شجر الكرم ويسقفونه ويبنون من غيره بيوتا للنحل لتقذف فيها العسل رزقا للخلق «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ومن أوراقها وأشجارها وتطلق الثمرة على الشجرة «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ» الذي ألهمك أن تسلكها وتدخلي فيها لإخراج العسل «ذُلُلًا» مسخرة منقادة لأربابها عند إرادتهم نقلها من
محل لآخر لتمام الانتفاع بها «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أبيض وأحمر وأصفر وما بينها بحسب السن والفعل والمرعى، فالذي تأكله من ذلك يحيله الله تعالى في بطونها عملا، وفي بطون القرّ حريرا، وفي الغير قذرا، فتفكروا رحمكم الله من غذاء واحد مطعوم وملبوس وسماد، وكذلك شجر الفواكه تسقى بماء واحد وأرض واحدة وتعطي أنمارا مختلفة حلوا وحامضا ومزا وغير ذلك.
راجع الآية ٤ من سورة الرعد في ج ٣، وفي اختلاف ألوانها عبرة أيضا والمؤثر واحد جلت قدرته، وقد جعل «فِيهِ» أي الشراب الخارج من بطون النحل «شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ال فيه للجنس فيصدق على الواحد والمتعدد لأنه شفاء لبعض الأمراض، وقد يضر بعضها وحده، أما إذا مزج بأجزاء أخر ففيه نفع لأكثر الأمراض «إِنَّ فِي ذلِكَ» العسل الخارج من النحل وهو يأكل ما يأكل غيره من الطيور والحيوان «لَآيَةً» عظيمة وعبرة جليلة «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ٦٩ في عجيب صنع المبدع الأعظم. والمراد بالوحي هنا التسخير، لأن الوحي أصله الإشارة السريعة، فيكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، ويكون بصوت مجرد، فما كان من هذا النوع للأنبياء فهو وحي، وما كان للأولياء فهو إلهام، وما كان للطير والحيوان والجماد فهو تسخير، راجع الآية ٥١ من سورة الشورى المارة تعلم أقسام الوحي وقد أسهبنا بحثه في المقدمة فراجعها. ومن بدايع الصنع الذي ألهمه الله إلى النحل بناء بيوتها على شكن مسدس من أضلاع متساوية، لا خلل فيها ولا زيادة ولا نقص، والأعظم من ذلك أنها تبدأ بنائه من طرفه لا من وسطه، وهذا مما يعجز عنه البشر غالبا، ومن عجائب القدرة أن لها أميرا نافذ الحكم على أفرادها وهو أكبرها جثة ويسمى يعسوب، ولها على باب كل خليّة بواب لا يمكن غيرها من الدخول، وقد ألهمها الله تعالى الخروج إلى المرعى والرجوع إلى محلها أينما كان لا تضله أبدا، وحتى الآن لم يعرف بوجه حقيقي خروج العسل من فمها أو من دبرها، والآية صالحة لكلا الأمرين، لأن الله تعالى قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) فالذي يخرج من الفم أو من الدبر يصدق عليه أنه خارج من البطن، فسبحانه جل كلامه أن يتطرق إليه الخلل كيف وهو تنزيل من حكيم حميد صانه من
طرق الباطل عليه. واعلم أن النحل على نوعين أهلي يأوي إلى البيوت لا يستوحش من الناس، ووحشي يأوي للجبال والكهوف والأشجار. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. راجع الآية ٨٢ من سورة الإسراء في ج ١ لتقف على آيات الشفاء كان ابن عمر رضي الله عنهما كلما خرجت به قرحة لطخها بالعسل، وتلا هذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله اسقه عسلا، فسقاه ثم جاء فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا، فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله: صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرىء. وما قاله بعض الملحدين اعتراضا على هذا الحديث من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به إسهال، فهو ناشيء عن جهله وحمقه وقلة عقله وعقيدته، لأن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخمة والهيضة وغيرهما، وقد أجمع الأطباء على أن علاج مثلهما يترك إلى الطبيعة أولا، فإن احتاجت إلى معين أعطي شربة تعينه على تنظيف أمعائه، فيحتمل أن ذلك الشخص من هذا القبيل، فكان أمره صلّى الله عليه وسلم له بشرب العسل السهل جاريا على قاعدة الطب والأطباء يخبرون على ذلك، وفيه دليل على حذقه صلّى الله عليه وسلم بالطب دون تعليم من أحد، وفضلا عن هذا فلا يبعد أن حضرة الرسول علم بتعليم الله إياه أن شفاء ذلك الرجل يكون بالعسل فكان شفاؤه به على رغم أنف كل معترض، وهو مما جرّب أيضا، إلا أن من لا يعنقد به لا ينفعه جزاء وفاقا. قال تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» يا ابن آدم وجعل للبثكم في الدنيا أجلا لا تتعدونه «ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» بحلوله أطفالا وصبيانا وشبابا وكهولا وشيوخا، يحسب آجالكم المقدرة عنده، فمنكم من يحتفظ بكمال عقله ورشده إلى وفاته مهما بلغ من العمر «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» الهرم والخوف إذ ينقص منهم القوى ويفسد الحواس ويضعف العقل فيكون حالهم من هذه الحيثية كحال الطفولة، ومن هنا تصور الردّ إلى أرذل العمر وقد بينه الله تعالى بقوله «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» أي