
الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، وتبقى الفرث في الكرش.
فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل. وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم سائِغاً سهل المرور في الحلق.
ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ: سيغاً، بالتشديد. وسيغاً، بالتخفيف. كهين ولين.
فإن قلت: أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوباً. والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لنسقيكم، كقولك: سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله لَبَناً مقدما عليه، فيتعلق بمحذوف، أى: كائناً من بين فرث ودم.
ألا ترى أنه لو تأخر فقيل: لبناً من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المنى طاهر على من جعله نجسا، لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
فإن قلت: بم تعلق قوله وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ؟ قلت: بمحذوف تقديره:
ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أى: من عصيرها، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه، وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بيان وكشف عن كنه الإسقاء. أو يتعلق بتتخذون، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد، كقولك: زيد في الدار فيها. ويجوز أن يكون تَتَّخِذُونَ صفة موصوف محذوف، كقوله:
... بِكَفّىْ كَانَ مِنْ أرْمَى الْبَشَرْ «١»
مالك عندي غير سوط وحجر | وغير كبداء شديدة الوتر |
السوط: آلة للضرب، معمولة من الجلد. وكبداء صفة لمحذوف، أى قوس كبداء غليظة الكبد، أى المقبض.
وقيل: واسعته. والوتر: حبل تشد به القوس. وجادت: صارت جيدة. ويروى بدله: ترمى. وشبه الرمي لها مجاز عقلى. وكفى مضاف لمحذوف قامت صفته في اللفظ مقامه، وهي جملة «كان» وحذف المنعوت الأول مطرد، والثاني ضرورة، لأنه لا يجوز حذف المنعوت إلا إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو «في»، أو صلح نعته لمباشرة العامل. و «كان» هنا ليس للمضى، بل لمجرد الثبوت والدوام، أى: بكفى رجل متصف بأنه دائما من أشد الناس رميا، يعنى نفسه. ففيه تجريد. يقول لعدوه: ليس لك عندي غير هذه الأشياء، وهو ضرب من التهديد والتقريع: هدده بالسوط عند القرب، وبالحجر عند المفارقة، وبالسهم عند البعد: ويروى «سهم» بدل سوط، فيضيع الترتيب.

تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقا حسناً، لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفا مكرّراً؟
قلت: إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى أَوْ هُمْ قائِلُونَ إلى الأهل المحذوف، والسكر: الخمر، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً. نحو رشد رشداً ورشداً. قال:
وَجَاؤُنَا بهم سَكَرٌ عَلَيْنَا | فَأَجْلَى اليَوْمُ وَالسَّكْرَانُ صَاحِى «١» |
تناولته الدعارة «٤» فسمج في المروءة. وقيل: السكر الطعم «٥» وأنشد:
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَا
أى تنقلت بأعراضهم «٦». وقيل هو من الخمر، وإنه إذا ابترك «٧» في أعراض الناس، فكأنه تخمر بها. والرزق الحسن: الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك. ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً، كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن.
(٢). أخرجه النسائي من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا. ورواه العقيلي من وجه آخر عن على مرفوعا. وفيه محمد بن الفرات الكوفي، وهو منكر الحديث.
(٣). قوله «فلما شيخ وأخذت منه السن العالية» في الصحاح: شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك، وشيخ تشييخا: أى شاخ. (ع)
(٤). قوله «فقال تناولته الدعارة» في الصحاح: الدعارة الفسق والخبث. (ع) [.....]
(٥). قوله «وقيل السكر الطعم» في الصحاح: الطعم بالضم: الطعام. (ع)
(٦). قوله «أى تنقلت بأعراضهم» في الصحاح: النقل بالضم ما ينتقل به على الشراب. (ع)
(٧). قوله «وإنه إذا ابترك» في الصحاح: ابترك، أى أسرع في العدو وجد. (ع)