آيات من القرآن الكريم

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

وَهِيَ: أَنَّ الْفِعْلَ الرَّافِعَ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرِهِ الْمُتَّصِلِ الْمَنْصُوبِ.
; فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ ضَرَبَهُ، أَيْ: زَيْدًا. تُرِيدُ ضَرَبَ نَفْسَهُ، إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ فَقْدٍ وَعَدَمٍ ; فَيَجُوزُ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قَائِمًا، وَزَيْدٌ فَقَدَهُ، وَزَيْدٌ عَدِمَهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْحَرْفِ كَالْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ ; فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ، تُرِيدُ غَضِبَ عَلَى نَفْسِهِ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا يَجُوزُ النَّصْبُ ; إِذْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. فَالْوَاوُ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ «وَلَهُمْ» [١٦ ٥٧] مَجْرُورٌ بِاللَّامِ. فَهُوَ نَظِيرُ: زَيْدٌ غَضِبَ عَلَيْهِ. اه. وَالْبِشَارَةُ تُطْلَقُ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ بِمَا يَسُرُّ، وَبِمَا يَسُوءُ. وَمِنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْخَبَرِ بِمَا يَسُوءُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الْآيَةَ [١٦ ٥٨]، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٥٣ ٢١]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ بُغْضِهِمْ لِلْبَنَاتِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ فِي أَشْعَارِهِمْ ; وَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَى عَقِيلِ بْنِ عِلْفَةَ الْمُرِّيِّ ابْنَتُهُ الْجَرْبَاءُ قَالَ:

إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ الْمَهْرُ أَلْفٌ وَعَبْدَانِ وَذَوْدُ عُشْرٍ
أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْرُ
وَيُرْوَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ قَوْلُهُ:
لِكُلِّ أَبِي بِنْتٍ يُرَاعَى شُؤُونَهَا ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إِذَا حُمِدَ الصِّهْرُ
فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ يُكِنُّهَا وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَخَيْرُهُمُ الْقَبْرُ
وَهُمُ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُوجِبَ رَغْبَتِهِمْ فِي مَوْتِهِنَّ، وَشَدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِوِلَادَتِهِنَّ: الْخَوْفُ مِنَ الْعَارِ، وَتَزَوُّجُ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ تُهَانَ بَنَاتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنَةٍ لَهُ تُسَمَّى مَوَدَّةً:
مَوَدَّةُ تَهْوَى عُمْرَ شَيْخٍ يَسُرُّهُ لَهَا الْمَوْتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَوْ أَنَّهَا تَدْرِي
يَخَافُ عَلَيْهَا جَفْوَةَ النَّاسِ بَعْدَهُ وَلَا خِتْنَ يُرْجَى أَوَدُّ مِنَ الْقَبْرِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَآبَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَوْ عَاجَلَ الْخَلْقَ بِالْعُقُوبَةِ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ ; لِأَنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ شَأْنِ مَنْ يَخَافُ فَوَاتَ الْفُرْصَةِ، وَرَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ. وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَلَوْ يُؤَاخِذُ

صفحة رقم 389

اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ الْآيَةَ [٣٥ ٤٥]، وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ الْآيَةَ [١٨ ٥٨]، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [١٦ ٦١]، إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [١٤ ٤٢]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [٢٩ ٥٣].
وَبَيَّنَ هُنَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاءَ أَجْلُهُ لَا يَسْتَأْخِرُ عَنْهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَنْ وَقْتِ أَجَلِهِ. وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الْآيَةَ [٧١ ٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [٦٣ ١١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [١٦ ٦١]، فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْعُلَمَاءِ:
وَاعْلَمْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ ; لِأَنَّ الذَّنْبَ ذَنْبُهُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [٦ ١٦٤]، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ: «مِنْ دَابَّةٍ» [١٦ ٦١]، أَيْ: كَافِرَةٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْأَبَاءَ بِكُفْرِهِمْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ.
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَالَ الْآخَرُ:

تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
وَقَدْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ أَعْرَابِيٍّ أُنْثَى، فَهَجَرَهَا لِشِدَّةِ غَيْظِهِ مِنْ وِلَادَتِهَا أُنْثَى، فَقَالَتْ:
مَا لِأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأْتِينَا يَظَلُّ بِالْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ إِلَّا نَلِدُ الْبَنِينَا لَيْسَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا شِينَا
وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا
تَنْبِيهٌ.
لَفْظَةُ «جَعَلَ» تَأْتِي فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ:
الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى اعْتَقَدَ ; كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - هُنَا: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ [١٦ ٥٧]، قَالَ

صفحة رقم 390

فِي الْخُلَاصَةِ:
وَجَعَلَ اللَّذَّ كَاعْتَقَدَ
الثَّانِي: بِمَعْنَى صَيَّرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحِجْرِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [٧١ ١٦]، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

.. وَالَّتِي كَصَيَّرَا وَأَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًا وَخَبَرًا
الثَّالِثُ: بِمَعْنَى خَلَقَ ; كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [٦ ١]، أَيْ: خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.
الرَّابِعُ: بِمَعْنَى شَرَعَ ; كَقَوْلِهِ:
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهَضَ الشَّارِبُ السَّكِرِ
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقَ كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقَ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: سُبْحَانَهُ [١٦ ٥٧]، أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُوَ مَا ادَّعَوْا لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا!
[[وقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل/٦١].
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة؛ لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده، وذكر المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في "آخر سورة فاطر": وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر/٤٥] الآية، وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) [الكهف/٥٨] الآية، وأشار بقوله: (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [النحل/٦١] إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل، وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم/٤٢] وقوله: (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ) [العنكبوت/٥٣].
وبين هنا: أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله. وأوضح ذلك في مواضع أخر، كقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّر) [نوح/٤] الآية، وقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون/١١] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله تعالى: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) [النحل/٦١] فيه وجهان للعلماء:
أحدهما: أنه خاص بالكفار؛ لأن الذنب ذنبهم، والله يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام/١٦٤] ومن قال هذا القول قال: (مِنْ دَابَّةٍ) أي: كافرة، ويروي عن ابن عباس. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة]] (*) وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ ; حَتَّى إِنَّ ذُنُوبَ بَنِي آدَمَ لَتُهْلِكَ الْجُعْلَ فِي حِجْرِهِ، وَالْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِظُلْمِهِمْ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ: أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا لَفْظَةُ «مَنْ» تَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: «مِنْ دَابَّةٍ» يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّابَّةِ نَصًّا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَعُمُّ بِالْهَلَاكِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنًا لَيْسَ بِظَالِمٍ؟ قِيلَ: يَجْعَلُ هَلَاكَ الظَّالِمِ انْتِقَامًا وَجَزَاءً، وَهَلَاكَ الْمُؤْمِنِ مُعَوَّضًا بِثَوَابِ الْآخِرَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ»، اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِهِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ بِقَوْمٍ عَمَّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ،
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين [[المعكوفين المزدوجين]] استدركته من ط عالم الفوائد

صفحة رقم 391

فَلَا إِشْكَالَ فِي شُمُولِ الْهَلَاكِ لِلْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ قَوْمٍ أَمَرَ نَبِيَّهُمْ وَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ ; لِأَنَّ الْهَلَاكَ إِذَا نَزَلَ عَمَّ.
تَنْبِيهٌ.
قَوْلُهُ: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [١٦ ٦١]، الضَّمِيرُ فِي «عَلَيْهَا»، رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْأَرْضُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ دَابَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الدَّوَابَّ إِنَّمَا تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [٣٥ ٤٥]، وَقَوْلُهُ: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [٣٨ ٣٢]، أَيْ: الشَّمْسُ وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَرُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:

وَصَهْبَاءُ مِنْهَا كَالسَّفِينَةِ نَضَّجَتْ بِهِ الْحَمْلُ حَتَّى زَادَ شَهْرًا عَدِيدُهَا
فَقَوْلُهُ: «صَهْبَاءُ مِنْهَا»، أَيْ: مِنَ الْإِبِلِ، وَتَدُلُّ لَهُ قَرِينَةُ «كَالسَّفِينَةِ» مَعَ أَنَّ الْإِبِلَ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَمَاوِيُّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فَقَوْلُهُ: «حَشْرَجَتْ وَضَاقَ بِهَا» يَعْنِي النَّفْسَ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ ; كَمَا تَدُلُّ لَهُ قَرِينَةُ «وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ»، وَمِنْهُ أَيْضًا لَبِيدٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
فَقَوْلُهُ: «أَلْقَتْ»، أَيِ: الشَّمْسُ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَلَكِنْ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا.
لِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ»، أَيْ: دَخَلَتْ فِي الظَّلَامِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ طُرْفَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
عَلَى مِثْلِهَا أَمْضِي إِذَا قَالَ صَاحِبِي أَلَا لَيْتَنِي أَفْدِيكَ مِنْهَا وَأَفْتَدِي
فَقَوْلُهُ: «أَفْدِيكَ مِنْهَا»، أَيْ: الْفَلَاةِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَلَكِنَّ قَرِينَةَ سِيَاقِ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يُؤَاخِذُ الْآيَةَ [١٦ ٦١]، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ ; فَمَعْنَى آخَذَ النَّاسَ يُؤَاخِذُهُمْ: أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ; لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ

صفحة رقم 392
أضواء البيان
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي
سنة النشر
1415
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية