آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ

تَرَى أَنَّ الْعَلِيلَ إِذَا اشْتَدَّ وَجَعُهُ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْوَجَعِ، فَإِذَا زَالَ أَحَالَ زَوَالَهُ عَلَى الدَّوَاءِ الْفُلَانِيِّ وَالْعِلَاجِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا أَكْثَرُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ. وَقَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فِي الْيَوْمِ الَّذِي كُنْتُ أَكْتُبُ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ، وَهَدَّةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الصُّبْحِ/ وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَلَمَّا سَكَتَتْ وَطَابَ الْهَوَاءُ، وَحَسُنَ أَنْوَاعُ الْوَقْتِ نَسُوا فِي الْحَالِ تِلْكَ الزَّلْزَلَةَ وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ السَّفَاهَةِ والجهالة، وكانت هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي شَرَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِجَوْهَرِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] يَعْنِي أَنَّ عَاقِبَةَ تِلْكَ التَّضَرُّعَاتِ مَا كَانَتْ إِلَّا هَذَا الْكُفْرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: بِما آتَيْناهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَإِزَالَةِ الْمَكْرُوهِ.
وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَتَمَتَّعُوا وَهَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] وَقَوْلِهِ: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: ١٠٧].
ثم قال تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ وَمَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ إلى قوله وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ فَسَادَ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ، شَرَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفَاصِيلَ أَقْوَالِهِمْ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَسَخَافَتَهَا.
فَالنوع الْأَوَّلُ: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِما لَا يَعْلَمُونَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل: ٥٤] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ أَيْ لَا يَعْلَمُ الْأَصْنَامُ مَا يَفْعَلُ عُبَّادُهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنِ الْحَيِّ حَقِيقَةٌ وَعَنِ الْجَمَادِ مَجَازٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لِما لَا يَعْلَمُونَ يَجِبُ أَنْ يكون عائد إِلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِما لَا يَعْلَمُونَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَهُوَ بِالْعُقَلَاءِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ افْتَقَرْنَا إِلَى إِضْمَارٍ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهًا، أَوْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ نَافِعًا ضَارًّا، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، لَمْ نَفْتَقِرْ إِلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ:

صفحة رقم 223

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا فَهْمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُضَافًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لَأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا مِنْ رِزْقِهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، وَلَا يَعْلَمُونَ فِي طَاعَتِهِ نَفْعًا وَلَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ ضَرَرًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ نَصِيبًا. وَثَانِيهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهِيَّتَهَا. وَثَالِثُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ فِي صَيْرُورَتِهَا مَعْبُودَةً. وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ اسْتِحْقَارُ الْأَصْنَامِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِقِلَّتِهَا لَا تَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ النَّصِيبِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَنَصِيبًا إِلَى الْأَصْنَامِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ، الْبَحِيرَةُ، وَالسَّائِبَةُ، وَالْوَصِيلَةُ، وَالْحَامُ، وهو قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا اعْتَقَدُوا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِعَانَةِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ يُوَزِّعُونَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَيَقُولُونَ لِزُحَلَ كَذَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَشْيَاءُ أُخْرَى فكذا هاهنا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ هذا المذهب قال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ وهذا في هؤلاء الأقوم خاصة/ بمنزلة قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحِجْرِ: ٩٢، ٩٣] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ، وَفِي وَقْتِ هَذَا السُّؤَالِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ السُّؤَالُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبِيخِ عِنْدَ المسألة فَهُوَ إِلَى الْوَعِيدِ أَقْرَبُ.
النوع الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩] كَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. أَقُولُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا كَانُوا مُسْتَتِرِينَ عَنِ الْعُيُونِ أَشْبَهُوا النِّسَاءَ فِي الِاسْتِتَارِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْبَنَاتِ. وَأَيْضًا قُرْصُ الشَّمْسِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَتِرِ عَنِ الْعُيُونِ بِسَبَبِ ضَوْئِهِ الْبَاهِرِ وَنُورِهِ الْقَاهِرِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ التَّأْنِيثِ فَهَذَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِي سَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ وَالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ سُبْحانَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيهَ ذَاتِهِ عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: تَعْجِيبُ الْخَلْقِ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِالْأُنُوثَةِ ثُمَّ نِسْبَتُهَا بِالْوَلَدِيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّالِثُ: قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ مَعَاذَ اللَّهِ وَذَلِكَ مُقَارِبٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
ثم قال تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي «مَا» وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ يَعْنِي الْبَنِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: ٣٩] ثُمَّ اخْتَارَ الوجه الثَّانِيَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ نَصِيبًا لَقَالَ وَلِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ، لِأَنَّكَ تَقُولُ جَعَلْتَ لِنَفْسِكَ كذا وكذا، ولا

صفحة رقم 224

نقول جَعَلْتَ لَكَ، وَأَبَى الزَّجَّاجُ إِجَازَةَ الوجه الْأَوَّلِ، وَقَالَ «مَا» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَا غَيْرُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُمُ الشَّيْءُ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ، وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ مَا تَشْتَهِي، وَلَا تَقُولُ جَعَلَ لَهُ مَا يَشْتَهِي وَهُوَ يَعْنِي نَفْسَهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْضَى بِالْوَلَدِ الْبِنْتِ لِنَفْسِهِ فَمَا لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ كَيْفَ يَنْسُبُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: التَّبْشِيرُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُفِيدُ السُّرُورَ إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الوجه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرُورَ كَمَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ فَكَذَلِكَ الْحُزْنُ يُوجِبُهُ.
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ التَّبْشِيرِ حَقِيقَةً فِي الْقِسْمَيْنِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ/ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٢١] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: المراد بالتبشير هاهنا الْإِخْبَارُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ.
أما قوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرَ مُغْتَمٍّ، وَيُقَالُ لِمَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحَزَنًا، وَأَقُولُ إِنَّمَا جَعَلَ اسْوِدَادَ الوجه كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَوِيَ فَرَحُهُ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَانْبَسَطَ رُوحُ قَلْبِهِ مِنْ دَاخِلِ الْقَلْبِ، وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الوجه لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، وَإِذَا وَصَلَ الرُّوحُ إِلَى ظَاهِرِ الوجه أَشْرَقَ الوجه وَتَلَأْلَأَ وَاسْتَنَارَ، وَأَمَّا إِذَا قَوِيَ غَمُّ الْإِنْسَانِ احْتَقَنَ الرُّوحُ فِي بَاطِنِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الوجه، فَلَا جَرَمَ يُرَبَّدُ الوجه وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ وَالْكَثَافَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةَ الوجه وَإِشْرَاقَهُ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ كُمُودَةَ الوجه وَغُبْرَتَهُ وَسَوَادَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ بَيَاضُ الوجه إشراقه كِنَايَةً عَنِ الْفَرَحِ وَغُبْرَتُهُ وَكُمُودَتُهُ وَسَوَادُهُ كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَيْ مُمْتَلِئٌ غَمًّا وَحَزَنًا.
ثم قال تَعَالَى: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ أَيْ يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّبُ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ آثَارُ الطَّلْقِ بِامْرَأَتِهِ تَوَارَى وَاخْتَفَى عَنِ الْقَوْمِ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ مَا يُولَدُ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ابْتَهَجَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى حَزِنَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا أَنَّهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَالْمَعْنَى: أَيَحْبِسُهُ؟ وَالْإِمْسَاكُ هاهنا بِمَعْنَى الْحَبْسِ كَقَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَابِ: ٣٧] وَإِنَّمَا قَالَ: أَيُمْسِكُهُ ذَكَرَهُ بِضَمِيرِ الذُّكْرَانِ لِأَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: ما بُشِّرَ بِهِ وَالْهُونُ الْهَوَانُ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ يُقَالُ إِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ هُونًا وَهَوَانًا، وَأَهَنْتُهُ هُونًا وَهَوَانًا، وَذَكَرْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الأنعام عند قوله، عَذابَ الْهُونِ [الأنعام: ٩٣] وَفِي أَنَّ هَذَا الْهُونَ صِفَةُ مَنْ؟ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةُ الْمَوْلُودَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا عَنْ هُونٍ مِنْهُ لَهَا. وَالثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا مَعَ الرِّضَا بِهَوَانِ نَفْسِهِ وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ.
ثم قال: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَالدَّسُّ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. يُرْوَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحْفِرُونَ حَفِيرَةً وَيَجْعَلُونَهَا فِيهَا حَتَّى تَمُوتَ.
وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَارَيْتُ ثَمَانِيَ بَنَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً»، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي ذُو إِبِلٍ، فَقَالَ: «أهد عن كل واحدة منهن هَدْيًا»
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَجِدُ حَلَاوَةَ الْإِسْلَامِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَقَدْ كَانَتْ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ابْنَةٌ فَأَمَرْتُ امْرَأَتِي أَنْ تُزَيِّنَهَا فَأَخْرَجَتْهَا إِلَيَّ فَانْتَهَيْتُ بِهَا إِلَى وَادٍ بَعِيدِ الْقَعْرِ فَأَلْقَيْتُهَا فِيهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ قَتَلْتَنِي، فَكُلَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شَيْءٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَمَا كَانَ

صفحة رقم 225
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية