آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ

وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: ١٧] وَهَذَا الحكم عَامٌّ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ تَكُونَ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ مُقْتَضِيَةً لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الذَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنَّا إِلَّا وَقَدْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ غَيْرَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا»
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُبَرَّأَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْهَمِّ بِهَا أَفْضَلُ مِمَّنْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِهَا.
الوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ الْبَشَرِ بِأَدْوَارٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَأَزْمَانٍ مُمْتَدَّةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَطُولُ الْعُمُرِ مَعَ الطَّاعَةِ يُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضِيلَةِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ»
فَضَّلَ الشَّيْخَ عَلَى الشَّابِّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عُمُرُهُ أَطْوَلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُ أَكْثَرُ فَكَانَ أَفْضَلَ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَلَمَّا كَانَ شُرُوعُ الْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَاتِ قَبْلَ شُرُوعِ الْبَشَرِ فِيهَا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَهِيَ طَاعَةُ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الرَّحِيمِ، وَالْبَشَرُ إِنَّمَا جَاءُوا بَعْدَهُمْ وَاسْتَنُّوا سُنَّتَهُمْ، فَوَجَبَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لِلْبَشَرِ مِنَ الثَّوَابِ فَقَدْ حَصَلَ مِثْلُهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَهُمْ ثَوَابُ الْقَدْرِ الزَّائِدِ مِنَ الطَّاعَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
الوجه الرَّابِعُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَوْقِيَّةِ بِالرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ وَالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُمْ فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٥٥]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ أَوْ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ، فَهُوَ مُنْقَادٌ خَاضِعٌ لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ، أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَبِالْأَمْرِ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِلَهَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ»
: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ.
وَثَانِيهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا مُسْتَقْبَحًا، فَمَنْ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ كَثِيرَةٍ لِيَصِيرَ تَوَالِي تِلْكَ الْعِبَارَاتِ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْعَقْلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ قَوْلٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَقُلْ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوُجُوبِ وَالْقِدَمِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ الْمَقْصُودُ

صفحة رقم 219

مِنْ تَكْرِيرِهِ تَأْكِيدُ التَّنْفِيرِ عَنْهُ وَتَكْمِيلُ وُقُوفِ الْعَقْلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلهَيْنِ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: ثُبُوتِ الْإِلَهِ وَثُبُوتِ التَّعَدُّدِ، فَإِذَا قِيلَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَنْ إِثْبَاتِ الْإِلَهِ أَوْ عَنْ إِثْبَاتِ التَّعَدُّدِ أَوْ عَنْ مَجْمُوعِهِمَا. فَلَمَّا قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ نَهْيٌ عَنْ إِثْبَاتِ التَّعَدُّدِ فَقَطْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاثْنَيْنِيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَمُتَبَايِنَيْنِ بِالتَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُبَايَنَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبٌ مِنْ جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ يَنْفِي القول بكونهما واجبي الوجود. الثاني: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا إِلَهَيْنِ وَحَاوَلَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَالْآخَرُ تَسْكِينَهُ امْتَنَعَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِالْفِعْلِ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاحِدَةَ وَالسُّكُونَ الْوَاحِدَ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَصْلًا وَلَا التَّفَاوُتَ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْمَلَ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الثَّانِي، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ كَوْنُ إِحْدَى الْقُدْرَتَيْنِ أَوْلَى بِالتَّأْثِيرِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ لَا يَحْصُلَ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ لَا يَحْصُلَ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَتَّةَ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزًا وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُمَا اثْنَيْنِ يَنْفِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَهًا. الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَسْتُرَ مُلْكَهُ عَنِ الْآخَرِ أَوْ لَا يَقْدِرَ، فَإِنْ قَدَرَ ذَاكَ إِلَهٌ وَالْآخَرُ ضَعِيفٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِمَّا أَنْ يَقْوَى عَلَى مُخَالَفَةِ الْآخَرِ، أَوْ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ فَذَاكَ الْآخَرُ إِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ الْمَغْلُوبُ ضَعِيفٌ. فَثَبَتَ أَنِ الِاثْنَيْنِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ مُتَضَادَّتَانِ. فَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى حُصُولِ الْمُنَافَاةِ وَالْمُضَادَّةِ بَيْنَ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيْنَ الِاثْنَيْنِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ السَّابِقَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَالَمِ مِنَ الْإِلَهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ مُحَالٌ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْحَقُّ الصَّمَدُ.
ثم قال بَعْدَهُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَهَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ/ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَثَبَتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَهٌ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَعْدِلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَيَقُولُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرْهَبَ الْخَلْقُ إِلَّا مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَرْغَبُوا إِلَّا فِي فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ، أَمَّا الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ فَهُوَ وَاحِدٌ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَمُحْدَثٌ، وَإِنَّمَا حَدُثَ بِتَخْلِيقِ ذَلِكَ الْقَدِيمِ وَبِإِيجَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا رَغْبَةَ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا رَهْبَةَ إِلَّا مِنْهُ، فَبِفَضْلِهِ تَنْدَفِعُ الْحَاجَاتُ وَبِتَكْوِينِهِ وَبِتَخْلِيقِهِ تَنْقَطِعُ الضَّرُورَاتُ.
ثم قال بَعْدَهُ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا حَقٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ وَاحِدًا، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدًا، كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ قَوْلِهِ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى أنها

صفحة رقم 220

مُفَعْوِلَةٌ لِلَّهِ لِأَجْلِهِ وَلِغَرَضِ طَاعَتِهِ، لِأَنَّ فِيهَا الْمُبَاحَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا لِغَرَضِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، لَا لِغَرَضِ الطَّاعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا إِنَّهَا لِلَّهِ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِتَكْوِينِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
ثم قال بَعْدَهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً الدين هاهنا الطَّاعَةُ، وَالْوَاصِبُ الدَّائِمُ. يُقَالُ: وَصَبَ الشَّيْءُ يَصِبُ وُصُوبًا إِذَا دَامَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصَّافَّاتِ: ٩] وَيُقَالُ: وَاظَبَ عَلَى الشَّيْءِ وَوَاصَبَ عَلَيْهِ إِذَا دَاوَمَ، وَمَفَازَةٌ وَاصِبَةٌ أَيْ بَعِيدَةٌ لَا غَايَةَ لَهَا. وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ وَاصِبٌ، لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَرَضُ لَازِمًا لَهُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ، إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بِالْمَوْتِ إِلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ وَاجِبَةٌ أَبَدًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: واصِباً حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي الظَّرْفِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَأَقُولُ: الدِّينُ قَدْ يَعْنِي بِهِ الِانْقِيَادُ. يُقَالُ: يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ أَيِ انْقَادَتْ. فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَيِ انْقِيَادُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَهُ لَازِمٌ أَبَدًا، لِأَنَّ انْقِيَادَ غَيْرِهِ لَهُ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ غَيْرَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى السَّبَبِ فِي طَرَفَيِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمَاهِيَّاتُ يَلْزَمُهَا الْإِمْكَانُ لُزُومًا ذَاتِيًّا، وَالْإِمْكَانُ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لُزُومًا ذَاتِيًّا، يَنْتِجُ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ يَلْزَمُهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لُزُومًا ذَاتِيًّا فَهَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ مَوْصُوفَةٌ بِالِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى اتِّصَافًا دَائِمًا وَاجِبًا لَازِمًا مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ. وَأَقُولُ: فِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ حُدُوثِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ الْمُرَجِّحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُمْكِنِ حَالَ بَقَائِهِ هَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ؟ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ هِيَ/ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْمَاهِيَّةِ فَيَكُونُ حَاصِلًا لِلْمَاهِيَّةِ حَالَ حُدُوثِهَا وَحَالَ بَقَائِهَا فَتَكُونُ عِلَّةَ الْحَاجَةِ حَالَ حُدُوثِ الْمُمْكِنِ وَحَالَ بَقَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ حَاصِلَةً حَالَ حُدُوثِهَا وَحَالَ بَقَائِهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي انْقِلَابِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَوْ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ إِلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الِانْقِيَادَ وَهَذَا الِاحْتِيَاجَ حَاصِلٌ دَائِمًا أَبَدًا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْمُرَجِّحِ وَالْمُخَصِّصِ، وَهَذِهِ دَقَائِقُ مِنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ مُودَعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْفَائِضَةِ مِنْ عَالَمِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ.
ثم قال تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ والمعنى: أنكم بعد ما عَرَفْتُمْ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَعَرَفْتُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ حُدُوثِهِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ أَيْضًا فِي وَقْتِ دَوَامِهِ وَبَقَائِهِ، فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ رَغْبَةٌ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَهْبَةٌ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ.
ثم قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: أنه لما بين بالآية الأولى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَّقِيَ غَيْرَ اللَّهِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْكُرَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لِأَنَّ الشُّكْرَ إِنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ حَصَلَتْ لِلْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخَافَ وَأَنْ لَا يَتَّقِيَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَأَنْ لَا يَشْكُرَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.

صفحة رقم 221

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا الْإِيمَانُ نِعْمَةٌ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يَنْتِجُ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِيمَانَ نِعْمَةٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُطْبِقُونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَأَيْضًا فَالنِّعْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَأَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ فِي النَّفْعِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ نِعْمَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ عَادَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى التَّسَلْسُلِ، بَلْ يَنْتَهِي إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لذته، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّالِثَةُ: النِّعَمُ إِمَّا دِينِيَّةٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، وَإِمَّا بَدَنِيَّةٌ وَإِمَّا خَارِجِيَّةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِكُمْ مُتَّصِلَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَالْمَعْنَى: مَا يَكُنْ بِكُمْ أَوْ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ.
ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الأسقام والأمراض والحاجة: فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أَيْ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَتَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ يُقَالُ: جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا:

يُرَاوِحُ من صلوات المليك طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِذَا اتَّفَقَ لِأَحَدٍ مَضَرَّةٌ تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ فَإِلَى اللَّهِ يَجْأَرُ، أَيْ لَا يَسْتَغِيثُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَفْزَعَ لِلْخَلْقِ إِلَّا هُوَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالسَّلَامَةِ، ثم قال بَعْدَهُ: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ كَشْفِ الضُّرِّ وَسَلَامَةِ الْأَحْوَالِ يَفْتَرِقُونَ فَفَرِيقٌ مِنْهُمْ يَبْقَى عَلَى مَثَلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الضُّرِّ فِي أَنْ لَا يَفْزَعَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَغَيَّرُونَ فَيُشْرِكُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَهِدَتْ فِطْرَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ وَخِلْقَتُهُ الْغَرِيزِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ أَنْ لَا مَفْزَعَ إِلَّا إِلَى الْوَاحِدِ، وَلَا مُسْتَغَاثَ إِلَّا الْوَاحِدُ فَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، فَأَمَّا أَنَّهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا مُسْتَغَاثَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ زَوَالِ الْبَلَاءِ يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عَظِيمٌ وَضَلَالٌ كَامِلٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٥].
ثم قال تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَفِي هَذِهِ اللَّامِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَامُ كَيْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي كَشْفِ ذَلِكَ الضُّرِّ عَنْهُمْ. وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِشْرَاكِ أَنْ يُنْكِرُوا كَوْنَ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا

صفحة رقم 222
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية