
شيء، فكأنه قال إذا ظهر للمراد منه، وعلى هذا الوجه يخرج قوله تعالى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: ١٠٥]، وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ١٤٠] ونحو هذا مما معناه، ويقع منكم ما رآه الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله أَنْ نَقُولَ منزل منزلة المصدر، كأنه قال قولنا، ولكن أَنْ مع الفعل تعطي استئنافا ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية، وكقوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم: ٢٥] وغير ذلك، وذهب أكثر الناس إلى أن الشيء هو الذي يقال له، كالمخاطب، وكأن الله تعالى قال في الأزل لجميع ما خلق: كُنْ بشرط الوقت والصفة، وقال الزجاج لَهُ بمعنى من أجله، وهذا يمكن أن يرد بالمعنى إلى الأول، وذهب قوم إلى أن قوله أَنْ نَقُولَ مجاز، كما تقول قال برأسه فرفعه وقال بيده فضرب فلانا، ورد على هذا المنزع أبو منصور، وذهب إلى أن الأولى هو الأولى، وقرأ الجمهور «فيكون» برفع النون، وقرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس، «فيكون» بنصبها، وهي قراءة ابن محيصن.
قال القاضي أبو محمد: والأول أبعد من التعقيب الذي يصحب الفاء في أغلب حالها فتأمله، وفي هذه النبذة ما يطلع منه على عيون هذه المسألة، وشرط الإيجاز منع من بسط الاعتراضات والانفصالات، والمقصود بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله وقربه في قدرته لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأن أمر أبي جندل كان والنبي ﷺ بالمدينة، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولا وآخرا. وقرأ الجمهور «لنبوئنهم» وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
«لنثوينهم» وهاتان اللفظتان معناهما التقرير، فقالت فرقة: الحسنة عدة ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة، وإليها كانت الإشارة بقوله حَسَنَةً وقالت فرقة: الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.

قال القاضي أبو محمد: وفي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أو «لنثوينهم» على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة، وهذا على أن حَسَنَةً هي المباءة والمثوى، وأن الفعل الظاهر عامل فيها، وقال أبو الفتح: نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحسانا، وجعلت حَسَنَةً موضع إحسانا، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له: خذ ما وعدك الله في الدنيا، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد، وكل أمل أبلغه المهاجرون، و «أجر الآخرة» هنا إشارة إلى الجنة، والضمير في يَعْلَمُونَ عائد إلى كفار قريش، وجواب لَوْ مقدر محذوف، ومفعول يَعْلَمُونَ كذلك، وفي هذا نظر، وقوله الَّذِينَ صَبَرُوا من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله، والصبر يجمع عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى، و «التوكل» تتفاضل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلا، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدها وتوكل»، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له، وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية، هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله تعالى مخاطبا لمحمد ﷺ أنه لم يرسل إلى الأمم إِلَّا رِجالًا. ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك، ورِجالًا منصوب ب أَرْسَلْنا وإِلَّا إيجاب، وقرأ الجمهور بضم الياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة «يوحي» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ عاصم من طريق حفص وحده «نوحي» بالنون وكسر الحاء، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن ثم قال تعالى فَسْئَلُوا، وأَهْلَ الذِّكْرِ هنا اليهود والنصارى، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقال الأعمش وسفيان بن عيينة:
المراد من أسلم منهم، وقال ابن جبير وابن زيد: أَهْلَ الذِّكْرِ أهل القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان فيهما ضعف، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر، لأنهم يكذبون هذه الصنائف، وقال الزجاج: أَهْلَ الذِّكْرِ هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ولا يتهمون لشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم، لا أنّا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألون ويستندون إليهم، وقوله بِالْبَيِّناتِ متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة الباء متعلقة ب أَرْسَلْنا في أول الآية، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، وَالزُّبُرِ الكتب المزبورة، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت، والذِّكْرَ في هذه الآية القرآن، وقوله لِتُبَيِّنَ يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل، وشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد.