جزاء المهاجرين وبشرية الرسل ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيان القرآن، وتهديد الكافرين
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
الإعراب:
حَسَنَةً صفة للمصدر، أي لنبوئنهم تبوئة حسنة.
الَّذِينَ صَبَرُوا.. الذين: إما بدل مرفوع من الَّذِينَ هاجَرُوا وإما بدل منصوب من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أو منصوب بتقدير: أعني.
عَلى تَخَوُّفٍ حال من الفاعل أو المفعول. سُجَّداً لِلَّهِ حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من ضمير ظِلالُهُ الذي هو في معنى الجمع يَخافُونَ رَبَّهُمْ حال.
مِنْ فَوْقِهِمْ حال من: هم.
البلاغة:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا استفهام بمعنى الإنكار.
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. وَالْمَلائِكَةُ عطف خاص على عام لتعظيم الملائكة وتكريمهم.
يَتَفَكَّرُونَ تَعْلَمُونَ يَشْعُرُونَ داخِرُونَ يَسْتَكْبِرُونَ يُؤْمَرُونَ بأسلوب السجع اللطيف.
الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ هم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في صدر الإسلام فرضا، ثم
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»
أي أن الهجرة أصبحت هي ترك سيئات الأعمال: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» والهجرة:
ترك الوطن في سبيل الله لإقامة دينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بالأذى من أهل مكة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أن الجنة أعظم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفار، أي لو علموا أن الله يمنح المهاجرين خير الدارين لوافقوهم، أو للمهاجرين، أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، أو للمتخلفين عن الهجرة، أي لو علموا ما للمهاجرين من الكرامة لبادروا إلى الهجرة. وفي هذا ترغيب في الهجرة وفي طاعة الله تعالى لأنه بالهجرة قوي الإسلام.
الَّذِينَ صَبَرُوا هم الصابرون على الشدائد من أذى المشركين، والهجرة لإظهار الدين.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي منقطعين إلى الله تعالى مفوضين إليه الأمر كله. إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، وهو رد لقول قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وفي هذا دلالة واضحة أن النبوة لا تكون إلا في الرجال، وليس في النساء نبية. أَهْلَ الذِّكْرِ العلماء بالتوراة والإنجيل، أي أهل الكتاب العالمين إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، فإنهم يعلمونه، وأنتم أقرب إلى تصديقهم من تصديق المؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بِالْبَيِّناتِ متعلق بمحذوف، أي أرسلناهم بالبينات أي الحجج الواضحة، والبينة: هي المعجزة الدالة على صدق الرسول الزُّبُرِ الكتب، أي كتب الشرائع وتكاليف العباد، جمع زبور الذِّكْرَ القرآن، وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ
لتوضح أسرار التشريع ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في القرآن من الحلال والحرام، والتبيين: أعم من أن ينص على المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي وإرادة أن يتأملوا فيه، فيتنبهوا للحقائق، ويعتبروا.
مَكَرُوا المكرات السيئات، والمكر: السعي بالفساد خفية السَّيِّئاتِ أي الأعمال التي تسوء عاقبتها، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه، كما ذكر في سورة الأنفال [٣٠] وراموا صد أصحابه عن الإيمان يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ مثلما فعل بقارون، أي بأن يذهبهم ويغوّر بهم في أعماق الأرض.
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من جهة لا تخطر ببالهم، بأن يأتيهم العذاب بغتة من جانب السماء، كما فعل بقوم لوط، وكما أهلك المشركين في بدر، ولم يكونوا يقدرون على النجاة.
فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم في البلاد للتجارة، مثل قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران ٣/ ١٩٦]. فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار من العذاب تَخَوُّفٍ مع تخوف وتوقع للبلايا أو تنقص شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال:
هذه لغتنا، التخوف: التنقص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعر أبو كبير يصف ناقته:
تخوّف الرحل منها تامكا قردا | كما تخوف عود النبعة السّفن «١» |
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة مِنْ شَيْءٍ له ظل كشجرة وجبل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يميل من جانب إلى جانب، وقرئ تتفيؤا وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع، والظلال: جمع ظل: وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس وَالشَّمائِلِ جمع شمال، والمراد باليمين والشمائل: أي عن جانبي الشيء أول النهار وآخره. سُجَّداً لِلَّهِ أي خاضعين له بما يراد منهم، والسجود: الانقياد والخضوع وَهُمْ الظلال، نزلوا منزلة العقلاء داخِرُونَ صاغرون منقادون. مِنْ دابَّةٍ نسمة تدب على السماء والأرض، أي تخضع له بما يراد منها، وغلب في الإتيان بما: ما لا يعقل لكثرته لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبرون عن عبادته يَخافُونَ أي
الملائكة، حال من ضمير لا يَسْتَكْبِرُونَ. مِنْ فَوْقِهِمْ حال، أي عاليا عليهم بالقهر والغلبة، كما قال تعالى: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الأعراف ٧/ ١٢٧].
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى موقف الكفار في إنكار البعث والقيامة، الدال على التمادي في الغي والجهل والضلال، أبان حكم الهجرة عن تلك الديار ورغب فيها، تخلصا مما يقدم عليه أولئك الكفار من إيذاء المسلمين وإضرارهم وعقوبتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة: صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، وعابس، وجبير، موليين لقريش، فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، أما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت لكم، لم أنفعكم، وإن كنت عليكم، لم أضركم، فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر قال:
ربح البيع يا صهيب، وقال عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله، لم يعصه، وهو ثناء عظيم، يريد به: لو لم يخلق الله النار لأطاعه، فكيف ظنك به، وقد خلقها؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام، فتركوا عذابهم، ثم هاجروا، فنزلت هذه الآية «١».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية:
هؤلاء أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، بوّأهم الله المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.
ثم ذكر الله تعالى الشبهة الخامسة لمنكري النبوة الذين قالوا: الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا، لكان
يبعث ملكا، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله تعالى وعادته أن يبعث رسولا من البشر.
ثم هددهم بخسف الأرض بهم، أو بعذاب من السماء بغتة لأن لله قدرة كاملة في السماء والأرض، والمخلوقات كلها تنقاد له وتخضع لأمره.
التفسير والبيان:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ.. هذه الآية تحدد جزاء المهاجرين في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان، رجاء ثواب الله وجزائه، والمعنى: والذين فارقوا ديارهم وأوطانهم، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله، وحبا في إرضائه، وذهبوا إلى ديار أخرى، بعد أن ظلموا، وأوذوا من الأعداء، لننزلنهم في الدنيا دارا أو بلدة حسنة، ومنزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب. فالحسنة: هي المنزلة الطيبة والمسكن المرضي والموطن الأصلح وهو المدينة، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد: هي الرزق الطيب، قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا لله، عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد.
فالحسنة: هي المنزلة الرفيعة المادية والمعنوية.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ.. أي وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطيناهم في الدّنيا لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ: الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدّنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى
المهاجرين، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. أو لو علم المتخلفون عن الهجرة معهم ما ادّخر الله لمن أطاعه واتّبع رسوله.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربّك في الدّنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر.
ثم وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ صَبَرُوا.. أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا على الأذى من قومهم والعذاب، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وهو حرم الله، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله، وعناء السفر ومتاعب الغربة، وتوكّلوا على ربّهم، أي فوّضوا أمورهم إليه، فأحسن عاقبتهم في الدّنيا والآخرة.
قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون سبب نزول الآية في مهاجرة الحبشة الذين اشتدّ أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكّنوا من عبادة ربّهم. ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعفر بن أبي طالب ابن عمّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأبو سلمة بن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدّنيا والآخرة «١»، وهذا هو الصحيح في سبب نزول هذه الآية، كما ذكر ابن عطية.
ثم أجاب الله تعالى عن الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوة المذكورة في هذه السورة وهي بشريّة الرّسل، فقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا للناس رسولا من أهل السماء أي ملائكة، وإنما أرسلنا رجالا من أهل الأرض نوحي إليهم أوامرنا ونواهينا، فلم نرسل إلى قومك يا محمد إلا كما أرسلنا إلى
من قبلهم من الأمم، أي رسلا من جنسهم وطبيعتهم: قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٣]، قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف ١٨/ ١١٠].
قال ابن عباس: لما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا، أنكرت العرب ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ.. الآية.
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.. أي فاسألوا أهل العلم وأهل الكتب الماضية:
أبشرا كانت الرّسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.. أي أرسلناهم بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوّتهم، وبالكتب المشتملة على التّشريع الرّبّاني. والزّبر: جمع زبور أي كتاب، تقول العرب: زبرت الكتاب: إذا كتبته، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٥]، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر ٥٤/ ٥٢]. وفي الآية: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزّبر إلا رجالا، أي غير رجال، فكلمة إِلَّا بمعنى غير، كقوله: لا إله إلا الله.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ.. أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد، أنزلنا إليك القرآن، لتبيّن للناس ما أنزل إليهم من ربّهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأمم الماضية التي أبيدت وأهلكت لتكذيبها الأنبياء، لعلمك بمعاني ما أنزل الله عليك.
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ومن أجل أن يتفكّروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ، فيهتدون، ويفوزون بالنّجاة في الدّارين.
وبعد فتح باب الأمل أمامهم، حذّرهم تعالى سوء ما هم عليه من الكفر والعصيان، فقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ.. أي إنه تعالى يخبر عن حلمه وإمهاله العصاة الذين يعملون السّيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم لما هم عليه من الضلال. والمكر في اللغة: عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء.
والمعنى: أفأمن الذين مكروا السيئات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أهل مكة، وحاولوا صدّ الناس عن الإيمان بدعوته، أحد أمور أربعة:
الأول- أن يخسف بهم الأرض، كما فعل بقارون.
الثاني- أو يأتيهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به، كما صنع بقوم لوط.
الثالث- أو يأخذهم في تقلّبهم في الليل والنهار أو في أسفارهم ومتاجرهم واشتغالهم في المعايش والأشغال الملهية، فلا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
الرابع- أو يأخذهم على تخوّف أي في حال خوفهم بأن يهلك الله قوما، فيتخوّفوا، فيأخذهم بالعذاب، وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فإن العذاب المتوقّع مع الخوف الشديد أبلغ وأشدّ من حال المفاجأة لأن العقاب في حال الإرهاب، وإنهاك الأعصاب، وإخافة النفوس أشدّ من العقاب المفاجئ. وقيل: التّخوّف: التّنقص من الأموال والأرزاق، والأنفس، على لغة هذيل كما بيّنّا.
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله تعالى لم يعجل بعذابهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة لأنه رؤف رحيم بعباده، فترك لهم وقتا يتمكنون من تلافي التّقصير، واستدراك الأخطاء، والعدول عن الضّلال.
ثبت في الصحيحين: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم»
وثبت فيهما أيضا: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود ١١/ ١٠٢] ».
ونظير الآية: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج ٢٢/ ٤٨].
والتّخويف والإنذار يناسبه التّذكير بالقدرة الإلهية الهائلة، والعظمة والجلال والكبرياء الذي خضع له كلّ شيء، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ.. أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من المخلوقات ذات الظلال كالجبال والأشجار والمباني والأجسام القائمة، تتميل ظلاله من جانب إلى جانب، ذات اليمين وهو المشرق، وذات الشمال وهو المغرب، وذلك بكرة وعشيّا أي في الغداة أول النهار، وفي المساء آخر النّهار، قال الأزهري: تفيؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعد ما انصرفت عنه الشمس، والظّل: ما يكون بالغداة: وهو ما لم تنله الشمس.
والخطاب في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا لجميع الناس.
وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ أراد: من شيء له ظلّ من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، بدليل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ وهو الشيء الكثيف الذي يقع له ظلّ على الأرض.
وقوله تعالى: ظِلالُهُ أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه: الإضافة إلى ذوي الضلال، وإنما حسن هذا لأن الذي عاد إليه الضمير، وإن كان واحدا في اللفظ وهو قوله تعالى: إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ إلا أنه كثير في المعنى. ونظيره قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف ٤٣/ ١٣]، فأضاف الظهور- وهو
جمع- إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة، وهو قوله تعالى:
ما تَرْكَبُونَ.
سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ أي أن الظلال ساجدة لأمر الله وحده، والسّجود: الانقياد والاستسلام، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله، والدّخور: الصّغار والذّل، لأن الظلال تتحوّل من جهة المشرق إلى جهة المغرب، فهي في أول النهار من جهة المشرق، ثم تتقلّص، وتنتقل من حال إلى حال في آخر النهار، مائلة إلى جهة المغرب، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية.
وقوله تعالى: داخِرُونَ جمع بالواو لأن الدّخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل، فغلب العقلاء.
ومجمل معنى الآية: أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كلّ واحد منها وشقّيه- استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء- ترجع الظلال من جانب إلى جانب، منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التّفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله لا تمتنع «١».
وهذا في الجمادات، ثم ذكر سجود الأحياء فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. أي ولله يخضع كلّ ما في السّموات والأرض من دابة تدبّ عليها، وكذلك الملائكة، والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن عبادته وعن أي شيء كلفوا به، أو عن مراد الله فيما أراد، فهم في تذلل وخضوع لله تعالى.
يَخافُونَ رَبَّهُمْ.. يخاف هؤلاء الملائكة والدّواب الأرضية الذي خلقهم،
وهو دائما من فوقهم بالقهر والغلبة، ويفعلون أي الملائكة كلّ ما يؤمرون به، فهم مثابرون على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره. فالمراد بالفوقية:
الفوقية بالرّتبة والشّرف والقدرة والقوة.
ونظير الآية كثير مثل: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرّعد ١٣/ ١٥].
والخلاصة: إن على أهل مكة الماكرين بالنّبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كلّ شيء له في السّموات والأرض، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
١- جزاء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وصبروا على الأذى، وتوكّلوا على ربّهم هو الموطن الأفضل، والمنزلة الحسنة، والعيشة الرّضية، والرّزق الطّيّب الوفير، والنّصر على الأعداء، والسّيادة على البلاد والعباد، وقد اجتمع لهم بفضل الله كل ذلك، ولأجر دار الآخرة أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده.
٢- في الآية تنويه بفضيلة الصّبر والتّوكل، أما الصّبر فلما فيه من قهر النّفس، وأما التّوكل فللعزوف عن الخلق والاتّجاه إلى الحقّ، الأول هو مبدأ السّلوك إلى الله تعالى، والثاني هو نهاية هذا الطريق.
٣- دلّت آية وَما أَرْسَلْنا.. على أنه تعالى ما أرسل أحدا من النّساء، ودلّت أيضا على أنه ما أرسل ملكا إلى الناس، ولكن الله يرسل الملائكة رسلا إلى
سائر الملائكة، ويرسل بعضهم بالوحي إلى الأنبياء، كما قال تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر ٣٥/ ١]. ورسل البشر هم دائما من الرّجال.
٤- على العوام سؤال أهل الذّكر فيما لم يكونوا يعلمون به، وأهل الذّكر: هم أهل العلم مطلقا، سواء بأخبار الماضين، إذ العالم بالشيء يكون ذاكرا له، أو بالكتب السماوية السابقة، أو بالقرآن. وبما أن أهل مكة كانوا مقرّين بأن اليهود والنّصارى أصحاب العلوم والكتب، فأمرهم الله بأن يرجعوا في مسألة بشرية الرّسل إليهم، ليبيّنوا لهم ضعف هذه الشّبهة وسقوطها، فهم الذين يخبرونهم بأن جميع الأنبياء كانوا بشرا.
٥- احتجّ بآية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ من أجاز للمجتهد تقليد مجتهد آخر، فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما، وجب عليه الرّجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالما، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فإن لم يجب فلا أقل من الجواز.
٦- احتجّ نفاة القياس بهذه الآية أيضا: فَسْئَلُوا.. فقالوا: المكلّف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم، لتمكّنه من استنباط الحكم بواسطة القياس.
وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من هذا الدّليل.
٧- أرسل الأنبياء السابقون بالبيّنات والزّبر، أي بالدّلائل والحجج الشاهدة بصدقهم، وبالكتب المتضمنة تشريع الإله. وأنزل الذّكر أي القرآن على النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليبيّن للناس فيه ما أنزل إليهم من الأحكام والوعد والوعيد قولا وفعلا، فالرّسول مبيّن عن الله عزّ وجلّ مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزّكاة وغيرها من أنظمة الحياة مما لم يفصّله القرآن.