آيات من القرآن الكريم

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ

احتجاج الكفار بالقدر وإنكارهم البعث وتشابه مهمة الرسل
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
الإعراب:
الْبَلاغُ مرتفع بالظرف، لاعتماد الظرف على حرف الاستفهام.
يَهْدِي فيه ضمير يعود إلى اسم إِنْ ومَنْ منصوب بيهدي وتقديره: إن الله لا يهدي هو من يضلّ. ومن قرأ يَهْدِي كان مَنْ في موضع رفع لأنه نائب فاعل. وفي يُضِلُّ ضمير يعود على اسم إِنْ ومفعول يُضِلُّ محذوف، أي إن الله لا يهدي من يضله الله.
إِنَّما قَوْلُنا.. أَنْ نَقُولَ مبتدأ وخبر.

صفحة رقم 127

البلاغة:
ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.. وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فيهما إطناب.
مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ بين كل من الجملتين طباق.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من أهل مكة لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قال البيضاوي: إنما قالوا ذلك استهزاء ومنعا للبعثة والتكليف، متمسكين بأن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع. وهذا نظير آية أخرى: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام ٦/ ١٤٨] وهذا احتجاج بالقدر، وهي حجة باطلة داحضة، باتفاق العقلاء والعلماء، كما قال ابن تيمية، لهذا رد الله عليهم هنا بقوله: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وفي سورة الأنعام [١٤٨] بقوله: قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ والراجح أنهم لم يقولوا ذلك استهزاء، وإنما اعتراضا على الله تعالى. والرد عليهم أن الله تعالى يفعل في ملكه ما يشاء ولا يجوز الاعتراض عليه، ولبعثة الرسل فائدة: وهي الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة الطاغوت، وأما علم الله بالشيء فلا اطلاع لنا عليه.
وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من البحائر والسوائب، أي فإشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله، فهو راض به ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فأشركوا بالله وكذبوا رسله فيما جاؤوا به، وحرموا حلاله، وهو جواب عن الشبهتين المتقدمتين. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فما على الرسل إلا الإبلاغ البيّن، وليس عليهم الهداية، ولكنه يؤدي إلى الهدى على سبيل التوسط، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقا، بل بأسباب قدّرها له.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا كما بعثناك في هؤلاء المشركين، أي إن البعثة- كما قال البيضاوي- أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها، سببا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغداء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه، ويضر المنحرف ويفنيه. وهو دليل على أن الله تعالى آمر أبدا في جميع الأمم بالإيمان وناه عن الكفر.
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي بأن اعبدوا الله، أي وحّدوه وَاجْتَنِبُوا أي اتركوا الأوثان أن تعبدوها، وهو أمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت. والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، والمراد: اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع، ويشمل الطاغوت الشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى ضلال.

صفحة رقم 128

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ فآمن، بأن وفقهم للإيمان بإرشادهم وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي وجبت عليه الضلالة في علم الله فلم يؤمن، بأن لم يوفقهم ولم يرد هداهم. ووجبت أي ثبتت بالقضاء الأزلي السابق لإصراره على الكفر والعناد.
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي يا معشر قريش كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ رسلهم من الهلاك، مثل عاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون إِنْ تَحْرِصْ يا محمد عَلى هُداهُمْ وقد أضلهم الله، لا تقدر على ذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ هذا معنى من حقت عليه الضلالة، أي من يريد ضلاله، ولكنه لم يأمره به، وإنما على العكس أمره وأمر العالم كله بالإيمان وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما نعين من عذاب الله، بأن ينصرهم بدفع العذاب عنهم.
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ غاية اجتهادهم فيها بَلى يبعثهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران مؤكدان لنفسهما منصوبان بفعلهما المقدر، أي وعد ذلك وحقه حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ ذلك أي أنهم مبعوثون، إما لعدم علمهم بمقتضى الحكمة التي يراعيها الله عادة، وإما لقصر نظرهم على المألوف، فيتوهمون امتناعه.
لِيُبَيِّنَ متعلق بقوله: يبعثهم المقدر، أي يبعثهم ليبين لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مع المؤمنين، من أمر الدين الحق، بتعذيبهم وإثابة المؤمنين أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في إنكار البعث المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب إِذا أَرَدْناهُ أردنا إيجاده فَيَكُونُ فهو يكون. وهذه الآية: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ.. لتقرير القدرة على البعث وبيان إمكانه لأن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته، ولا يتوقف على سبق المواد والمدد، وإلا لزم التسلسل، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة، يمكن له تكوينها مرة أخرى.
سبب النزول: نزول الآية (٣٨) :
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ.. قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

صفحة رقم 129

المناسبة:
في هذه الآيات شبهتان، أما آيات وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.. فهي الشبهة الثالثة لمنكري النبوة بعد إيراد الشبهتين المتقدمتين، وتقريرها: أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة، فقالوا: لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان، سواء جئت أو لم تجئ، ولو شاء الله الكفر، فإنه يحصل الكفر، سواء جئت أو لم تجئ، وإذا كان الأمر كذلك، فالكل من الله، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك، فكان القول بالنبوة باطلا.
وأما آيات: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. فهي الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، ومفادها أنهم قالوا: الاعتقاد بالبعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا من وجهين:
الأول- أن محمدا كان داعيا إلى التصديق بالمعاد، فإذا بطل ذلك، ثبت أنه كان داعيا إلى القول الباطل، فهو ليس رسولا صادقا.
الثاني- أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته، بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته.
ورد الله عليهم مقالهم كله بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم القديمة، وما على الرسل إلا التبليغ، وليس عليهم الهداية، والله تعالى لا يجبر أحدا على الهداية أو الضلالة، وإنما يختار الإنسان لنفسه ما يريد، والله سبحانه خلق للناس قدرة الاختيار بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلا يصح الاحتجاج بمشيئته تعالى، بعد أن خلق لهم من الاختيار ما يكفي.

صفحة رقم 130

التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى في هذه الآيات عن شبهتين للكفار منكري النبوة، الأولى منهما هي الشبهة الثالثة لهم المتضمنة اغترارهم بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم الواهي محتجين بالقدر: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.. أي وقال المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان، معتذرين عن شركهم، محتجين بالقدر بقولهم: ما نعبد هذه الأصنام إلا بمشيئة الله، فلو شاء الله ما عبدناهم، ولا حرّمنا هذه المحرّمات من البحائر والسوائب والوصائل «١» ونحو ذلك مما ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، ما لم ينزّل به سلطانا، ما حرمناها إلا برضا الله، ولو كان تعالى كارها لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه.
وهذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [١٤٨].
وقصدهم من ذلك- كما ذكر الشوكاني في فتح القدير- الطعن في الرسالة، أي لو كان ما قاله الرسول حقا آتيا من الله من منع عبادة غير الله، ومنع تحريم ما لم يحرمه الله، لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله منا، فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، فلما عبدنا غيره وحرمنا ما لم يحرمه، دل على أن فعلنا مطابق لمراده وموافق لمشيئته، وهم في الحقيقة لا يقرون بذلك، ولكنهم قصدوا الطعن على الرسل.
ورد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي أن ذلك ليس جديدا في الاعتقاد الفاسد، فمثل قولهم حدث ممن قبلهم من الأمم

(١) سبق تفسيرها في آية: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [المائدة ٥/ ١٠٣]. [.....]

صفحة رقم 131

حين كذبوا الرسل، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فهؤلاء سلكوا سبيل أسلافهم في تكذيب الرسل واتباع الضلال.
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فهم مخطئون فيما يقولون، وليس الأمر كما يزعمون أنه تعالى لم ينكره عليهم، بل قد أنكره عليهم أشد الإنكار، ونهاهم عنه أشد النهي، وأرسل في كل أمة أو قرن أو طائفة من الناس رسولا يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن عبادة ما سواه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل، ومنهم من أعرض وتنكر، فحقت عليه الضلالة وكلمة العذاب لإصراره على الكفر والعصيان.
وما على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم إلا إبلاغ الرسالة والوحي وإيضاح طريق الحق، ومنه أن مشيئته تعالى تتوجه بالهداية لمن تعلق بها، كما قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٨- ١٠] وقال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت ٢٩/ ٦٩].
وليس من وظيفة هؤلاء الرسل إلجاء الناس إلى الإيمان، فذلك ليس من شأنهم، ولا هو من الحكمة.
أي إن الثواب والعقاب مرتبطان بأمرين: مشيئة الله تعالى، واتجاه العبد إلى تحصيل الأسباب المؤدية إلى النجاة أو الهلاك. وهداية الله نوعان: هداية إرشاد ودلالة، وهذا ما يقوم به الرسل والكتب المنزلة عليهم، وهداية توفيق وعون، وهذا متعلق بسلوك العبد أصل طريق الهداية والإيمان، فمن آمن زاده الله توفيقا إلى الخير، ومن ضل وكفر وأعرض أضله الله وأبعده عن جادة الحق والخير. ثم إن أمر الله جميع الناس بالإيمان غير إرادته ومشيئته.

صفحة رقم 132

ثم أبان الله تعالى عموم بعثة الرسل لكل الأمم فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا.. أي إن سنته تعالى في خلقه إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله، ونهيهم عن عبادة الطاغوت: وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام والكواكب والشيطان وغيرها، فلقد أرسل في كل أمة رسولا منذ حدث الشرك في قوم نوح، وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانت دعوته عامة للإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كان يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٤٥].
فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.
والخلاصة: إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية غير مرادة لأنه تعالى نهى الناس عن الكفر على ألسنة رسله. وأما المشيئة الكونية وهي تمكين بعض الناس من الكفر وتقديره لهم على وفق اختيارهم، فلا حجة لهم فيها لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حكمة بالغة «١».
ثم إنه تعالى أنكر على الكفرة المكذبين بإنزال العقوبة عليهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ.. أي فبعض الناس هداهم الله ووفقهم لتصديق الرسل، ففازوا ونجوا، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله، فعاقبهم الله تعالى.
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل،

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٦٩

صفحة رقم 133

وكذب الحق، كعاد وثمود، كيف أهلكهم الله بذنوبهم: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [محمد ٤٧/ ١٠] فانظروا كيف كان مصير المكذبين رسلهم، لتعتبروا بعاقبتهم.
ثم خصص الله الخطاب برسوله مسليا له عما يقابله قومه من جحود فقال:
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ.. أي إن تحرص يا محمد على هداية قومك، فلا ينفعهم حرصك إذا كان الله قد أراد إضلالهم بسوء اختيارهم، كما قال سبحانه: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة ٥/ ٤١] وقال تعالى حكاية لقول نوح لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ [هود ١١/ ٣٤] وقال عزّ وجلّ لرسوله صلّى الله عليه وسلّم:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص ٢٨/ ٥٦].
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر الاختيار، لا الإكراه والإلجاء.
ثم ذكر تعالى الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، فقالوا: اعتقاد البعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا، وذلك في قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.. أي حلف المشركون، واجتهدوا في الحلف، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي أنهم استبعدوا البعث، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به لأن الميت يفنى ويزول.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: بلى سيكون ذلك، ووعد به وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل ووقعوا في الكفر.
وحكمة الله في المعاد هي لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي ليبين للناس الحق فيما يختلفون فيه من كل شيء، ويقيم العدل المطلق فيميز الخبيث من

صفحة رقم 134

الطيب، والطائع من العاصي، والظالم من المظلوم، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي وليعلم الكافرون علم اليقين الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم: لا يبعث الله من يموت، وتقول لهم زبانية النار: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور ٥٢/ ١٤- ١٦].
وناسب الكلام في البعث أنه تعالى أخبر عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فقال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ..
أي إنا إذا أردنا شيئا من الخلق والإعادة والبعث للأموات والمعاد، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء الله، دون عناء ولا تردد، ولا بطء ولا تكلف، كما قال سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر ٥٣/ ٥٠] وقال:
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل ١٦/ ٧٧] وقال:
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨] وقال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن بعثة الرسل في كل الأمم عامة شاملة، وهدفها واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الطاغوت أي ترك كل معبود دون الله، كالشيطان والكاهن والصنم، وكذا كل من دعا إلى الضلال.
٢- الناس أمام دعوة الرسل فريقان: فريق أرشده الله إلى دينه وعبادته،

صفحة رقم 135

وفريق أضله الله في قضائه السابق حتى مات على الكفر، وكل من الفريقين اختار لنفسه ما يحلو، وعلم الله واسع محيط بكل شيء، علم الله من كل فريق ما سيختار، فكان قضاؤه السابق مطابقا لما سيحدث، وعلم الله لا يتغير. وسنة الله قديمة مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان، وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض، والكفر في البعض، حسبما علم من توجه العبد إلى منحاه.
٣- العاقل من يعتبر ويتعظ بما حل بفريق الضالين المكذبين، كيف آل أمرهم إلى الدمار والخراب والعذاب والهلاك.
٤- لا جدوى ولا فائدة من حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره على هداية أحد بجهده وتصميمه إن سبق في علم الله الضلالة له، فإنه تعالى لا يرشد من أضله، بعد أن ضل سواء السبيل.
وليس للضالين من ناصرين ولا من شافعين ولا من رفاق ينقذونهم من العذاب الذي استحقوه على ضلالهم وكفرهم.
٥- الكل يعجب من حماقة المشركين وجهلهم حينما يغلظون الأيمان ويؤكدون القسم بأن الله لا يبعث من يموت. لذا رد الله عليهم بأن البعث حق مؤكد لا شك فيه، ولا بد من وقوعه، وإن كان أكثر الناس يجهلون أنهم مبعوثون.
٦- الحكمة من البعث والمعاد واضحة وهي إظهار الله الحق فيما يختلف فيه الناس من أمر البعث وكل شيء، وإعلام الكافرين بالبعث الذين أقسموا على إنكاره أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقسامهم: لا يبعث الله من يموت.
٧- لله القدرة المطلقة الهائلة، فإذا أراد أن يبعث من يموت فلا تعب عليه ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما يحدثه في الكون لأنه إنما يقول له:
كن فيكون.

صفحة رقم 136
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية