لَا يَتَأَلَّمُ بِالْمَوْتِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَفِّيَ هُوَ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّهُ وَفَاةُ الْحَشْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَاحْتَجَّ الْحَسَنُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوَفِّي وَفَاةُ الْحَشْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُمْ بِالْجَنَّةِ صَارَتِ الْجَنَّةُ كَأَنَّهَا دَارُهُمْ وَكَأَنَّهُمْ فِيهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي هي خاصة لكم كأنكم فيها.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ فِي ادِّعَاءِ النبوة فقال تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
فِي التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِكَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا وَصِدْقًا وَصَوَابًا، عَادَ إِلَى بَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْزَجِرُونَ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَيَانَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ كَانُوا لَا يَنْزَجِرُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ وَأَتَاهُمْ أَمْرُ رَبِّكَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ على كلا التقديرين فقد قال تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَيْ كَلَامُ هَؤُلَاءِ وَأَفْعَالُهُمْ يُشْبِهُ كَلَامَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالَهُمْ.
ثم قال: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَصَابَهُمُ الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ بِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فَاسْتَوْجَبُوا مَا نَزَلْ بِهِمْ.
ثم قال: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَالْمُرَادُ أَصَابَهُمْ عِقَابُ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ أَيْ نَزَلَ بِهِمْ عَلَى وَجْهٍ أَحَاطَ بجوانبهم: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقاب استهزائهم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
[في قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إلى قوله حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانَ لَحَصَلَ الْإِيمَانُ، سَوَاءٌ جِئْتَ أَوْ لم تجيء، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ
الكفر سواء جئت أو لم تجيء، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فَائِدَةَ فِي مَجِيئِكَ وَإِرْسَالِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ بَاطِلًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ هِيَ عَيْنُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْأَنْعَامِ: ١٤٨] وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهِ مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَةِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ اسْتِدْلَالًا وَاعْتِرَاضًا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَذْكُرَ مِنْهُ الْقَلِيلَ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ هِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ بَعْثُهُ الْأَنْبِيَاءَ عَبَثًا. فَنَقُولُ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَعْثَةِ الرَّسُولِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ وَدَفْعِ الْكُفْرِ كَانَتْ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ جَائِزَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَوْلُ جَارٍ مَجْرَى طَلَبِ الْعِلَّةِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وفي أفعاله، وذلك باطل، بل الله تَعَالَى أَنْ يَحْكُمَ فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَلِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عَبِيدِهِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَأَمْرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَهْيُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ.
ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَمَرَ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ، وَنَهَى الْكُلَّ عَنِ الْكُفْرِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى هَدَى الْبَعْضَ وَأَضَلَّ الْبَعْضَ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ لِلَّهِ/ تَعَالَى مَعَ الْعِبَادِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي الْبَعْضِ وَالْكُفْرَ فِي الْبَعْضِ. وَلَمَّا كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَعْنَى سُنَّةً قَدِيمَةً فِي حَقِّ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ وَكُلِّ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ مِنْهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِحُكْمِ كَوْنِهِ إِلَهًا مُنَزَّهًا عَنِ اعْتِرَاضَاتِ الْمُعْتَرِضِينَ وَمُطَالَبَاتِ الْمُنَازِعِينَ، كَانَ إِيرَادُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مُوجِبًا لِلْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَكَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ، لَا لِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بَلْ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ مَزِيدَ الذَّمِّ وَاللَّعْنِ. فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهًا آخَرَ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: ٨٧] وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ مُعْتَقِدِينَ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَالَ: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ هؤلاء للكفار أَبَدًا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.
ثم قال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا مَنَعَ أَحَدًا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا أَوْقَعَهُ فِي الْكُفْرِ، وَالرُّسُلُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغُ، فَلَمَّا بَلَّغُوا التَّكَالِيفَ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا مَنَعَ أَحَدًا عَنِ الْحَقِّ كَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ سَاقِطَةً. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرُّسُلَ بِالتَّبْلِيغِ. فَهَذَا التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ يَحْصُلُ أَمْ لَا يَحْصُلُ فَذَلِكَ لَا تَعَلُّقَ لِلرَّسُولِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِإِحْسَانِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بخذلانه.
المسألة الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ أَبَدًا فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالْأُمَمِ آمِرًا بِالْإِيمَانِ وَنَاهِيًا عَنِ الْكُفْرِ.
ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يَعْنِي: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالصِّدْقِ وَالْحَقِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ وَأَعْمَاهُ عَنِ الصِّدْقِ وَأَوْقَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوَافِقُ إِرَادَتَهُ، بَلْ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُهُ وَيَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ مُتَطَابِقَانِ أَمَّا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ فَقَدْ يَخْتَلِفَانِ، وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي قَوْلِنَا وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَمَّا إِرَادَةُ الْإِيمَانِ فَخَاصَّةٌ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ: بِأَنَّ الْمُرَادَ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ لِنَيْلِ ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أَيِ الْعِقَابُ. قَالَ: وَفِي صِفَةِ قَوْلِهِ: حَقَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْعَذَابُ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا يَجُوزُ وَصْفُهُمَا بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ هِيَ آثَارُ الْهَلَاكِ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّلَالِ الْمَذْكُورِ هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ.
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ مَنِ اهْتَدَى فَكَانَ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُهْتَدِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يُرِيدُ: مَنْ ظَهَرَتْ ضَلَالَتُهُ، كَمَا يُقَالُ لِلظَّالِمِ: حَقَّ ظُلْمُكَ وَتَبَيَّنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: حَقَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُضِلَّهُمْ إذا ضلوا كقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: ٢٧].
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمُتَعَسِّفَةُ وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمُسْتَكْرَهَةُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَسُقُوطَهَا مِرَارًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: فِي الطَّاغُوتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: اجْتَنِبُوا عِبَادَةَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَسَمَّى الْكُلَّ طَاغُوتًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اجْتَنِبُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ لَكُمْ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ امْتَنَعَ أَنْ لا يصدر منه الضلالة، وإلا لا نقلب خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ عَدَمُ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ مُحَالًا، وَوُجُودُ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ وَاجِبًا عَقْلًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الكثيرة والله علم. وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلَهُ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَافِ: ٣٠] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُسَ: ٩٦] وَقَوْلُهُ:
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧].
ثم قال تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْمَعْنَى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُعْتَبِرِينَ لِتَعْرِفُوا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ كَمَا نَزَلَ بِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ أَنَّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْتَدِي، فَقَالَ:
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أَيْ إِنْ تَطْلُبْ بِجُهْدِكَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: