
بالرّبوبية لله، وانقادوا عند الموت، فلا ينفعهم ذلك، والله عليم بأعمال الكفار.
وهذه الآية دليل على أنه لا يخرج كافر ولا منافق من الدّنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذلّ. ولكن لا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان، كما قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر ٤٠/ ٨٥].
ويقال لهم عند الموت: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها.. الآية، يدخل كلّ طائفة من باب، ويستقرّ في طبقة أو درك من طبقات ودركات جهنم، فبئس مقام المتكبرين الذين تكبروا في الدّنيا دار التكليف عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، كما وصفهم ربّنا سبحانه وتعالى بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات ٣٧/ ٣٥].
صفات المتقين إيمان المتقين بالوحي المنزل وجزاؤهم
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)

الإعراب:
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل، أو مبتدأ، وخبره: يَدْخُلُونَها أو خبر مبتدأ محذوف، أو هو المخصوص بالمدح اسم: نعم.
طَيِّبِينَ حال منصوب من الهاء والميم في تَتَوَفَّاهُمُ وهو العامل فيها. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ نعت لقوله الْمُتَّقِينَ.
البلاغة:
قالُوا: خَيْراً فيه إيجاز بالحذف، أي قالوا: أنزل خيرا. والسبب في نصب خَيْراً هنا، مع أنه رفع أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في جواب المشركين: هو كما قال الزمخشري بيان الفرق بين جواب المؤمن المقر وجواب الجاحد، يعني لما سئل المؤمنون لم يتلعثموا وأجابوا على السؤال جوابا بينا مفعولا للإنزال فقالوا: خيرا، والمشركون عدلوا عن السؤال وأعرضوا عن الجواب فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء.
المفردات اللغوية:
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، يعني المؤمنين. أَحْسَنُوا بالإيمان. حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا أو حياة طيبة. وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي الجنة. خَيْرٌ من الدنيا وما فيها، أو لثوابهم في الآخرة خير منها، وهو وعد للمتقين جزاء قولهم وإيمانهم. وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات. وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة. كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل هذا الجزاء يجزيهم.
طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
يَقُولُونَ يقول الملائكة لهم عند الموت: سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت، جاءه ملك، فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.
ويقال لهم في الآخرة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أحوال المكذبين بالقرآن المنزل وبالوحي من قولهم:
أساطير الأولين، وتحمل أوزارهم وأوزار أتباعهم، وتوفي الملائكة لهم ظالمي أنفسهم، وإلقائهم السّلم في الآخرة والإقرار بربوبية الله، أتبعه ببيان أوصاف

المؤمنين الذين يؤمنون بالمنزّل، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات في جنات عدن، حتى تتم المقارنة بين وعد هؤلاء، ووعيد أولئك.
روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا جاء الوافد المقتسمين طرق مكة للحيلولة بين القادمين وبين الإيمان بالنبي، قالوا له ما قالوا سابقا، وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك.
روى ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: اجتمعت قريش، فقالوا: إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه، فخرج ناس في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد، ووصل إليهم، قال أحدهم: أنا فلان بن فلان، فيعرّفه نسبه، ويقول له: أنا أخبرك عن محمد: إنه رجل كذاب، لم يتّبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد، ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم، فمفارقون له، فيرجع الوافد، فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك، قال: بئس الوافد لقومي، إن كنت جئت، حتى إذا بلغت مسيرة يوم، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ما يقول، وآتي قومي ببيان أمره، فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين، فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون: خيرا.
التفسير والبيان:
تتميز الأشياء بأضدادها، فأخبر الله تعالى عن السعداء المؤمنين إثر الإخبار عن الأشقياء المشركين، ليتضح الفرق، وتتجلى أسس العدل. فسئل الذين اتقوا

الكفر والمعاصي وخافوا الله: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به وبرسوله.
والسائل: هم الوافدون على المسلمين في أيام المواسم والأسواق، فكان الرجل يأتي مكة، فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه، فيقولون: أنزل خيرا.
ثم أخبر تعالى عما وعد هؤلاء المؤمنين في مقابل وعيد المشركين السابق، فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا.. أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه، وأحسنوا العمل في الدنيا، أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة.
فلهم في الدنيا مثوبة حسنة من عند الله بالنصر والفتح والعزة، وفي الآخرة بنعيم الجنة وما فيها من خير.
ثم أعلمنا الله تعالى بأن دار الآخرة خير من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا.
ونظير صدر الآية: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل ١٦/ ٩٧].
ونظير آخر الآية: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [القصص ٢٨/ ٨٠] وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران ٣/ ١٩٧] وقوله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى ٩٣/ ٤] وقوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى ٨٧/ ١٧].
ثم وصف الدار الآخرة بقوله: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي

أي لنعم دار المتقين دار الآخرة، وهي جنات عدن أي إقامة تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار، ونعيمها دائم ميسر غير ممنوع: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي للمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات، كما قال تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧١] وقال سبحانه: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة ٥٦/ ٣٢- ٣٣].
وهذا جزاء التقوى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل ذلك الجزاء الطيب، يجزي الله كل من آمن به واتقاه، وتجنب الكفر والمعاصي، وأحسن عمله. وهذا حث على ملازمة التقوى.
ثم أخبر الله تعالى عن حال المتقين عند الاحتضار في موازاة أو مقابلة حال المشركين: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ أي الذين تقبض أرواحهم الملائكة طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء. وكلمة طَيِّبِينَ كما قال الرازي: كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم كل ما نهوا عنه، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، والتبرؤ عن الأخلاق المذمومة، والتوجه إلى حضرة القدس، وعدم الانهماك في الشهوات واللذات الجسدية، فيطيب للملائكة قبض أرواحهم. وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح.
وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح، كقوله سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت ٤١/ ٣٠- ٣٢].
ومضمون تحية الملائكة هو: يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، ادْخُلُوا.. أي

تقول الملائكة لهم: سلام عليكم من الله، وأمان لا خوف، وراحة لا مكروه، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم. والمراد من هذه التحية: البشارة بدخول الجنة بعد البعث. ولما بشرتهم الملائكة بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها، فقولهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي هي خاصة لكم، كأنكم فيها.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات مثل واضح لأسلوب القرآن في بيان المتقابلات المتعاكسة، فبعد أن أبان تعالى حال المشركين وجزاءهم في الدنيا والآخرة، أعقبه ببيان حال المؤمنين الأتقياء.
فهم يؤمنون ويصدقون تصديقا جازما بصدق النبوة، وصحة ما أنزل الله من القرآن على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
فيكون جزاؤهم أحسن من عملهم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن ٥٥/ ٦٠] فلهم في الدنيا الجزاء الأفضل من النصر والفتح والغنيمة والعزة، ولهم في الآخرة الحسنة أي الجنة، فمن أطاع الله فله الجنة غدا، وما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا، لفنائها وبقاء الآخرة، ولنعم دار المتقين: الآخرة، وهي جنات عدن التي يدخلونها، وتجري في رياضها الأنهار، ولهم فيها ما يشاءون مما تمنوه وأرادوه، ومثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين، وهكذا يكون جزاء التقوى.
ويطيب للملائكة قبض أرواح هؤلاء الأتقياء، ويسلمون عليهم، مبشرين لهم بالجنة لأن السلام أمان. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده، لتقرّ عينه.
وتقول لهم أيضا: أبشروا بدخول الجنة بما عملتم في الدنيا من الصالحات.