آيات من القرآن الكريم

۞ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ
ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ إِلْقَاءَ السَّلَمِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْلَمُوا وَأَقَرُّوا لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أَيْ قَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ! وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّوءِ الشِّرْكُ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالشِّرْكِ، وَمَعْنَى بَلَى رَدًّا لِقَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ إِلْقَاءَ السَّلَمِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلْقَوُا السَّلَمَ وَقَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من سوء، ثم هاهنا اخْتَلَفُوا، فَالَّذِينَ جَوَّزُوا الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ/ وَإِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الْكَذِبِ لِغَايَةِ الْخَوْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ قَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ، مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَوْ فِي اعْتِقَادِنَا، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ قَالَ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ، وَمَعْنَى بَلَى الرَّدُّ لِقَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْكَذِبُ فَإِنَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي عَلِمَهُ مِنْكُمْ. ثم صرح بذكر العقاب فقال:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٩]
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ فِي الْعِقَابِ، فَيَكُونُ عِقَابُ بَعْضِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْخُلُودِ لِيَكُونَ الْغَمُّ وَالْحَزَنُ أَعْظَمَ.
ثم قال: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ على قَبُولِ التَّوْحِيدِ وَسَائِرِ مَا أَتَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَتَفْسِيرُ التَّكَبُّرِ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَمِنْ أَوْزَارِ أَتْبَاعِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَوَفَّاهُمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُلْقُونَ السَّلَمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا

صفحة رقم 200

أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا خَيْرًا، وَذِكْرِ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ مَنَازِلِ الْخَيْرَاتِ وَدَرَجَاتِ السَّعَادَاتِ لِيَكُونَ وَعْدُ هَؤُلَاءِ مَذْكُورًا مَعَ وَعِيدِ أُولَئِكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: يَدْخُلُ تَحْتَ التَّقْوَى أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِكُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ فَاعِلًا لِكُلِّ الْوَاجِبَاتِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُرِيدُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقُولُ: هَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ فُلَانٌ قَاتِلٌ أَوْ ضَارِبٌ كَوْنُهُ آتِيًا بِقَتْلِ وَاحِدٍ وَضَرْبِ وَاحِدٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ صِدْقُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ أَتَى بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ خِلَافَ الْأَصْلِ، كَانَ تَقْيِيدُ الْمُقَيِّدِ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِلْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنِ اتَّقَى عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا خَيْرًا، فَلِمَ رُفِعَ الْأَوَّلُ وَنُصِبَ هَذَا؟
أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ جَوَابِ الْمُقِرِّ وَجَوَابِ الْجَاحِدِ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلُوا لَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَأَطْبَقُوا الْجَوَابَ عَلَى السُّؤَالِ بَيِّنًا مَكْشُوفًا مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ فَقَالُوا خَيْرًا أَيْ أَنْزَلَ خَيْرًا، وَأُولَئِكَ عَدَلُوا بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ فَقَالُوا هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْزَالِ فِي شَيْءٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، يَأْتِي الرَّجُلُ مَكَّةَ فَيَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَمْرِهِ فَيَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَكَذَّابٌ، فَيَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ خَيْرًا، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلَ خَيْرًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي قَالُوهُ مِنَ الْجَوَابِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَقَوْلُهُمْ خَيْرٌ جَامِعٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا وَصَوَابًا، وَلِكَوْنِهِمْ مُعْتَرِفِينَ بِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ فَهُوَ بِالضِّدِّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَنَّ ذَلِكَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْراً وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إِخْبَارًا عَنِ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ قَوْلَهُمْ وَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا قَوْلَانِ، أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن أهل لا إله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ: أَحْسَنُوا عَلَى مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ، وَجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَاحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأما قوله: فِي هذِهِ الدُّنْيا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحْسَنُوا وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ اتَّقَوْا بِعَمَلِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةٌ، وَتِلْكَ الْحَسَنَةُ هِيَ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحَسَنَةُ هُوَ أَنَّ ثَوَابَهَا يُضَاعَفُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ وَبِسَبْعِمِائَةٍ وَإِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ.

صفحة رقم 201

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: حَسَنَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَنْ تَحْصُلَ لَهُمُ الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحَسَنَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى مَا عَمِلُوهُ. وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الظَّفَرُ عَلَى أَعْدَاءِ الدَّيْنِ بِالْحُجَّةِ وَبِالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَبِاسْتِغْنَامِ أَمْوَالِهِمْ وَفَتْحِ بِلَادِهِمْ، كَمَا جَرَى بِبَدْرٍ وَعِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ أَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَأَخْرَجُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ، وَإِخْلَاءِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ مُوقِعُهُ. وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَحْسَنُوا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالطَّاعَاتِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَلْطَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: ١٧].
وَأما قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: ٣٢] بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حُصُولَ هَذَا الْخَيْرِ، ثم قال: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أَيْ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحُذِفَتْ لِسَبْقِ ذِكْرِهَا، هَذَا إِذَا لَمْ تُجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ وَصَلْتَهَا بِمَا بَعْدَهَا قُلْتَ:
وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فَتَرْفَعُ جَنَّاتٍ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ لِنِعْمَ، كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزِلُهَا زَيْدٌ. وَأما قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ ارْتِفَاعِهَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مَرْفُوعَةٌ بِإِضْمَارِ «هِيَ» كَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ/ قِيلَ: أَيُّ دَارٍ هِيَ هَذِهِ الْمَمْدُوحَةُ فَقُلْتَ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، ويدخلونها خَبَرُهُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: جَنَّاتُ يَدُلُّ عَلَى الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَقَوْلُهُ: عَدْنٍ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَوْلُهُ:
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ أَبْنِيَةٌ يَرْتَفِعُونَ عَلَيْهَا وَتَكُونُ الْأَنْهَارُ جَارِيَةً مِنْ تَحْتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَهَذَا أَبْلَغُ من قوله: فِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: ٧١] لِأَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ دَاخِلَانِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ مَعَ أَقْسَامٍ أُخْرَى. الثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يَعْنِي هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الجنة، لأن قوله: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فِي الدُّنْيَا.
ثم قال تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [إلى آخره الآية] أَيْ هَكَذَا جَزَاءُ التَّقْوَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى وَصْفِ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: ٢٨] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ وَقَوْلُهُ: طَيِّبِينَ كَلِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ جَامِعَةٌ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ إِتْيَانُهُمْ بِكُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاجْتِنَابُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مَوْصُوفِينَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ طَابَ لَهُمْ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَضْ إِلَّا مَعَ الْبِشَارَةِ بِالْجَنَّةِ حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهَا وَمَنْ هَذَا حاله

صفحة رقم 202
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية