
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْقَوْمِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَمْ يُجِبْ عَنْهَا، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى مَحْضِ الْوَعِيدِ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِطَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِكُلِّ الْقُرْآنِ، وَتَارَةً بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَتَارَةً بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَارَةً بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِعَيْنِهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفَرْقَانِ: ٥] وَأَبْطَلَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفَرْقَانِ: ٦] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلا ممن يكون عالما بأسرار السموات وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِهَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَتَكَرَّرَ شَرْحُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مِرَارًا كَثِيرَةً لَا جَرَمَ اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَعِيدِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الجواب عن هذه الشبهة، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُبَالِغَةُ فِي وَصْفِ وَعِيدِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، وَفِي الْمُرَادِ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بَنَى صَرْحًا/ عَظِيمًا بِبَابِلَ طُولُهُ خمسة آلاف ذراع. وفيل فَرْسَخَانِ، وَرَامَ مِنْهُ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ لِيُقَاتِلَ أهلها، فالمراد بالمكر هاهنا بِنَاءُ الصَّرْحِ لِمُقَاتَلَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ وَالْمَكْرِ بِالْمُحِقِّينَ.
أما قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: أَنَّ الْإِتْيَانَ وَالْحَرَكَةَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا أَتَاهُمُ اللَّهُ بِزَلَازِلَ قَلَعَ بِهَا بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَسَاسِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْضُ التَّمْثِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ رَتَّبُوا مَنْصُوبَاتٍ لِيَمْكُرُوا بِهَا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْصُوبَاتِ مِثْلَ حَالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيَانًا وَعَمَّدُوهُ بِالْأَسَاطِينِ فَانْهَدَمَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ، وَضَعُفَتْ تِلْكَ الْأَسَاطِينُ، فَسَقَطَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِأَخِيهِ أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفَ وَأَمَاتَهُمْ تَحْتَهُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى.
أما قوله تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ السَّقْفَ لَا يَخِرُّ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِمْ، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ التَّأْكِيدَ. وَالثَّانِي: رُبَّمَا خَرَّ السَّقْفُ، وَلَا يَكُونُ تَحْتَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَهُ، وَحِينَئِذٍ يُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ الْأَبْنِيَةَ قَدْ تَهَدَّمَتْ وَهُمْ مَاتُوا تَحْتَهَا. وَقَوْلُهُ: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَحْضِ التَّمْثِيلِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَنْصُوبَاتِهِمْ. ثُمَّ تَوَلَّدَ الْبَلَاءُ مِنْهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَزَلَ ذَلِكَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ فِي الزَّجْرِ لِمَنْ سَلَكَ مِثْلَ سَبِيلِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْخِزْيُ هُوَ الْعَذَابُ مَعَ الْهَوَانِ، وَفَسَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ الْهَوَانَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ مَعْنَاهُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ فِي زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: ٢٢] وَقَالَ أَيْضًا: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا/ تَعْبُدُونَ [يُونُسَ: ٢٨] وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَحْمِلُ خَشَبَةً خُذْ طَرَفَكَ وَآخُذُ طَرَفِي، فَأُضِيفَ الطَّرَفُ إِلَيْهِ.
البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أَيْ تُعَادُونَ وَتُخَاصِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُشَاقَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي شِقٍّ وَكَوْنِ الْآخَرِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ.
البحث الثَّالِثُ: قَرَأَ نَافِعٌ: تُشَاقُّونَ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْجَمْعِ.
ثم قال تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ حِينَ يَرَوْنَ خِزْيَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا ذَكَرَ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْكَلَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَعْرِضِ إِهَانَةِ الْكَافِرِ كَانَ وَقْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْكَافِرِ وَتَأْثِيرُهُ فِي إِيذَائِهِ أَكْمَلَ وَحُصُولُ الشَّمَاتَةِ بِهِ أَقْوَى.
البحث الثَّانِي: الْمُرْجِئَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عَذَابَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَرَأَ حَمْزَةُ: يَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْيَاءِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذُكُورٌ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِلَّفْظِ.
ثم قال: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: