
خواص الألوهية الخلق وعلم السّر والعلن والحياة الأبديّة
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
الإعراب:
وَهُمْ يُخْلَقُونَ مبتدأ وخبر. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ خبر ثان، أي هم مخلوقون أموات.
ويجوز أن ترفع أَمْواتٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات. أَيَّانَ يُبْعَثُونَ استفهام عن الزمان بمعنى (متى)، وأَيَّانَ: مبني لتضمنه معنى الحرف، وهو همزة الاستفهام، وبني على حركة لالتقاء الساكنين، وهي الفتحة لأنها أخف الحركات.
البلاغة:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ بينهما طباق السلب. لَغَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة.
تُسِرُّونَ وتُعْلِنُونَ بينهما طباق.
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ولا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فيهما إطناب تأكيدا لسفاهة من عبد الأصنام.

لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ بينهما جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ هو الله سبحانه وتعالى. كَمَنْ لا يَخْلُقُ كلّ ما عبد من دون الله تعالى من الملائكة وعيسى والأصنام. وغلّب فيه أولو العلم منهم، وأجريت الأصنام مجرى أولي العلم لأنهم سمّوها آلهة، ومن حقّ الإله أن يعلم. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعرفوا فساد ذلك، فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يستحضره بأدنى تذكّر والتفات. والمراد بالآية إنكار التسوية بين الخالق والمخلوق، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرة الله تعالى وتناهي حكمته وتفرده بالخلق.
لا تُحْصُوها لا تضبطوها، فضلا عن أن تطيقوا شكرها. إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ حيث ينعم عليكم مع تقصيركم وعصيانكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهم الأصنام. وَهُمْ يُخْلَقُونَ ينحتون ويصورون من الحجارة وغيرها، فهي مفتقرة الوجود إلى التخليق، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود.
أَمْواتٌ لا روح فيهم. غَيْرُ أَحْياءٍ تأكيد. وَما يَشْعُرُونَ لا يعلمون، أي الأصنام.
أَيَّانَ وقت. يُبْعَثُونَ أي لا يشعرون بزمان بعثهم أو بعث عبدتهم الخلق، فكيف يعبدون؟ إذ لا يكون إلها إلا الخالق الحيّ العالم بالغيب، المقدّر للثواب والعقاب، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
إِلهُكُمْ المستحقّ للعبادة منكم إِلهٌ واحِدٌ لا نظير له في ذاته ولا في صفاته، وهو الله.
تعالى، وهذا تكرير للمدّعى بعد إقامة الحجج. قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للوحدانية.
مُسْتَكْبِرُونَ متكبّرون عن الإيمان بها. لا جَرَمَ حقّا. أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ فيجازيهم بذلك. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي يعاقبهم.
المناسبة:
بعد ذكر الدلائل الدّالة على وجود الإله القادر الحكيم، مع بيان أنواع نعم الله تعالى، ذكر الله تعالى خواص الألوهية: وهي الخلق والإبداع، وعلم السّرّ والعلن، والحياة الدائمة، مما يدلّ على أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، ويدلّ على إبطال عبادة غير الله تعالى، ثم ذكر تعالى أسباب الإشراك: وهي تحجر القلوب وإنكار التوحيد، فبقي أصحابه على الجهل والضّلال، علما بأن أشدّ

القبح عبادة تلك الأصنام الجمادات المحضة، التي ليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار.
التفسير والبيان:
نبّه الله تعالى في هذه الآيات على عظمته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له، دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة، فقال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.. أي أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها، كمن لا يخلق، بل لا يقدر على شيء من الخلق أصلا، أفلا تذكّرون أي تعتبرون وتتعظون؟! فإن معرفة ذلك لا تحتاج إلى تدبّر وتفكّر ونظر. والاستفهام إنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير. ونظير الآية: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان ٣١/ ١١].
ثم نبههم تعالى على كثرة نعمه وإحسانه إليهم ليرشدهم إلى أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ.. أي وإن أردتم حساب نعم الله وضبطها، لا تستطيعوا إحصاءها وضبط عددها، فنعم الله كثيرة دائمة، والعقل عاجز عن الإحاطة بها.
إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ.. أي إنه تعالى كثير المغفرة يتجاوز عنكم وعن تقصيركم في الشّكر، رحيم بكم فينعم عليكم مع استحقاقكم للحرمان بسبب الإشراك والكفر، فلو طالبكم بشكر جميع نعمه، لعجزتم عن القيام بذلك، ولو عذّبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير، ومهما عمل الإنسان من الطاعات فلن يقابل نعمة واحدة من نعم الله تعالى.
والخلاصة: إنه تعالى بعد أن بيّن بالآية المتقدّمة: أَفَمَنْ يَخْلُقُ.. أن

الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ، بيّن بهذه الآية: وَإِنْ تَعُدُّوا أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله وشكر نعمه على وجه أتم.
وبعد أن أبطل عبادة الأصنام لعجزها عن الخلق والإنعام، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو كونها جمادات لا تعلم شيئا، فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ..
أي والله يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، فهو عالم الغيب والشّهادة، والظّاهر والباطن.
ثم وصف تعالى الأصنام بما يجردها عن أهلية العبادة، ليدلّ على غباء المشركين صراحة، فقال ذاكرا ثلاثة أوصاف:
١- وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ.. أي إن الأوثان والأصنام لا يخلقون شيئا، بل هي مخلوقة، كما قال تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ [الصافات ٣٧/ ٩٥- ٩٦].
٢- أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي هي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فلا تفيدكم شيئا.
فقوله تعالى: غَيْرُ أَحْياءٍ لبيان أنه لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها، فهي ليست كبعض المواد التي يمكن طروء الحياة عليها، كالنّطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها.
أما الإله فهو الحيّ الذي لا يطرأ عليه موت أصلا، فبان الفرق بينهما وهو أن الإله دائم الحياة، والأصنام دائمة الموت.
٣- وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وتلك الأصنام لا يدرون متى يبعث عبدتها ومتى تقوم الساعة؟ فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما

يرجى ذلك من الذي يعلم كلّ شيء، وهو خالق كلّ شيء. وعبّر عن الأصنام كما يعبّر عن الآدميين لزعمهم أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على حسب زعمهم.
وهذا إيماء إلى أن البعث من لوازم التكليف، للجزاء على العمل من خير أو شرّ، وتصريح بأن من لوازم الألوهية معرفة يوم القيامة، وهو تهكّم بالمشركين الذين لا يحسنون الفهم والتّقدير.
وبعد هدم عبادة الأصنام، صرّح تعالى بالمطلوب فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي إن إلهكم أيها الناس إله واحد، لا إله إلا هو، ومعبودكم الذي يستحقّ العبادة والطاعة بحقّ هو الإله المعبود الواحد. ثم ذكر سبب شركهم وإنكارهم التوحيد، فقال تعالى:
فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.. أي فالذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ولا يصدّقون بها، ولا يؤمنون بالوحدانية قلوبهم منكرة للتّوحيد، وهم مستكبرون عن الإقرار بالوحدانية وعن عبادة الله، فلا يرغبون في حصول الثواب، ولا يرهبون من الوقوع في العقاب.
والمعنى أن الكافرين تنكر قلوبهم الوحدانية، كما قال تعالى واصفا تعجبهم منها: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص ٣٨/ ٥]. وقال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر ٣٩/ ٤٥].
ثم هددهم تعالى وأوعدهم على أعمالهم، فقال: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ.. أي حقّا، إنّ ربّك يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون، ويعلم إصرارهم على كفرهم، وسيجزيهم على ذلك أتمّ الجزاء، إنه لا يحبّ المستكبرين عن التوحيد وهم

المشركون، بل وكلّ مستكبر، أي يعاقبهم ويجازيهم. وهذا الوعيد يتناول كلّ المتكبّرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات مناقشة حادّة مع المشركين، فيها إنكار لعبادتهم الأصنام، وتهكّم بهم، وبيان فساد تفكيرهم وسوء تقديرهم، وسوء صنيعهم، وصدودهم عن الحقّ، وإعلان تصميمهم على الكفر والشّرك.
وأول فساد في تفكيرهم أن الأصنام مخلوقة وعاجزة عن خلق غيرها، فهي لا تضرّ ولا تنفع، فكيف تتخذ آلهة؟! ومن كان قادرا على خلق الأشياء، كان بالعبادة أحقّ ممن هو مخلوق لا يضرّ ولا ينفع.
والفساد الثاني أنهم ينكرون نعم الله وإحسانه لهم، وأبسط مبادئ التدين والأخلاق مقابلة النعمة وشكرها، وهم لم يشكروها.
والفساد الثالث أن الأصنام جمادات لا تعلم شيئا، فكيف توصف بالألوهية؟ والإله ينبغي أن يكون عالما بالسّرائر والظواهر، محيطا بأحوال العابدين، حتى يلبي مطلبهم، ويجازي مقصرهم ومسيئهم.
ثم صرّح تعالى بأوصاف الأصنام الثلاثة المناقضة تماما لمن يستحقّ وصفه بالألوهية والعبادة والطاعة، وهي العجز عن خلق شيء، وكونهم أمواتا غير أحياء، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة، وكونهم- أي الأصنام- يجهلون وقت البعث وقيام الساعة للحساب والجزاء على الأعمال.
والألوهية الحقّة بعد بيان استحالة الإشراك بالله تعالى هي ألوهية الله الواحد