آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ

الله، كذَّبوا بها، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي: أن الكذب نعت لازم لهم، وعادة من عاداتهم، وهذا ردَّ عليهم إِذ قالوا: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ «١». وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب، لأنه خصّ به من لا يؤمن.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١١١]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ. قال مقاتل:
(٨٧٦) نزلت في عبد الله بن سعد بن أَبي سرح القرشي، ومِقْيَس بن صُبابة، وعبد الله بن أنس بن خَطَل، وطعمة بن أُبيرِق، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الفاكه المخزومي.
فأما قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال:
(٨٧٧) أحدها: أنه نزل في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فعذَّبوه، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
(٨٧٨) والثاني: أنه لما نزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآيتين اللتين

عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إن أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر باطل، وقد تفرّد به.
حسن، أخرجه الطبري ٢١٩٤٤ عن ابن عباس في قوله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ... إلى آخر الآية، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي لقي من قريش والذي قال. فأنزل الله تعالى ذكره عذره مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ.... إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ١/ ١٤٠ عن مجاهد مرسلا.
وله شاهد عند الحاكم ٢/ ٣٥٧، وعبد الرزاق في تفسيره ١٥٠٩، والطبري ٢١٩٤٦ من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، مع أن مداره على محمد بن عمار بن ياسر، وهو مقبول، ولم يرو له الشيخان، لكن أصل الخبر محفوظ، فقد أخرجه الطبري ٢١٩٤٧ عن أبي مالك مرسلا. وله شاهد من مرسل قتادة: أخرجه الطبري ٢١٩٤٤. الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وله شواهد أخرى أوردها السيوطي في «الدر» ٤/ ٢٤٩.
حسن. أخرجه الطبري ٢١٩٥٣ بإسناد حسن عن ابن عباس. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٢١٩٥٢. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري ٢١٩٥٠ و ٢١٩٥١.
__________
(١) سورة النحل: ١٠١.

صفحة رقم 586

في سورة النساء «١»، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إِلىَ من كان بمكة، فخرج ناس ممن أقرَّ بالإِسلام، فاتَّبعهم المشركون، فأدركوهم، فأكرهوهم حتى أعطوا الفتنة، فنزل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
(٨٧٩) والثالث: أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة، كان قد هاجر فحلفت أُمُّه ألاَّ تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع، فرجع إِليها، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون، قاله ابن سيرين.
(٨٨٠) والرابع: أنه نزل في جبر، غلام ابن الحضرمي، كان يهودياً فأسلم، فضربه سيِّده حتى رجع إِلى اليهودية، قاله مقاتل.
وأما قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فقال مقاتل: هم النفر المسَمَّوْن في أول الآية.
فأما التفسير، فاختلف النحاة في قوله: مَنْ كَفَرَ وقوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ فقال الكوفيون:
جوابهما جميعا في قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، فقال البصريون: بل قوله: مَنْ كَفَرَ مرفوع بالرد على الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون خبرُ مَنْ كَفَرَ محذوفاً، لوضوح معناه، تقديره: من كفر بالله، فالله عليه غضبان.
قوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي: ساكن إِليه راضٍ به. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً قال قتادة: من أتاه بايثار واختيار. وقال ابن قتيبة: من فتح له صدره بالقبول. وقال أبو عبيدة: المعنى:
من تابعته نفسه، وانبسط إِلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب: وجاء قوله:
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ على معنى الجميع، لأن «مَنْ» تقع على الجميع.
فصل: الإِكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها. وفي الإِكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان «٢» :
إِحداهما: أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إِن لم يفعل ما أُمر به. والثانية: أن التخويف لا يكون إِكراها حتى يُنَال بعذاب. وإذا ثبت جواز «التَّقِيَة» فالأفضل ألاَّ يفعل، نص عليه أحمد، في أسير خُيِّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إِن صبر على القتل فله الشرف، وإِن لم يصبر، فله الرخصة، فظاهر هذا، الجوازُ. وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التَّقيَّة في شرب الخمر فقال: إنما

عزاه السيوطي في «الدر» ٤/ ٥٤٩ لابن أبي حاتم عن ابن سيرين لكن ذكره مختصرا، وهو غير صحيح، وما قبله هو الراجح، وكذا حديث عمار، هو أشهر وأصح حديث في الباب.
باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(١) سورة النساء: ٩٦- ٩٧.
(٢) في «المغني» ١٢/ ٢٩٢- ٢٩٤: من أكره على الكفر، فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي. وقد قال النبي عليه السلام: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يثبت حكمه. لكن من الأفضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما روى خبّاب عن رسول الله ﷺ قال: «إن كان الرّجل من قبلكم ليحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بمنشار، فيوضع على شق رأسه، ويشقّ باثنين، ما يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه».

صفحة رقم 587

التقية في القول. فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك. فأما إِذا أُكره على الزنا، لم يجز له الفعل، ولم يصح إِكراهه، نص عليه أحمد. فان أُكره على الطلاق، لم يقع طلاقه، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يقع.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا في المشار إِليه بذلك قولان:
أحدهما: أنه الغضب والعذاب، قاله مقاتل.
والثاني: أنه شرح الصدر للكفر. و «استحبُّوا» بمعنى: أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ أي: وبأن الله لا يريد هدايتهم. وما بعد هذا قد سبق شرحه «١» إِلى قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ففيه قولان:
أحدهما: الغافلون عما يراد بهم، قاله ابن عباس. والثاني: عن الآخرة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لا جَرَمَ قد شرحناها في هود «٢». وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(٨٨١) أحدها: أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٨٨٢) والثاني: أن قوماً من المسلمين خرجوا للهجرة، فلحقهم المشركون فأعطَوهم الفتنة، فنزل فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ «٣» فكتب المسلمون إِليهم بذلك، فخرجوا، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(٨٨٣) والثالث: أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان الشيطان قد أزلَّه حتى لحق بالكفار، فأمر به رسول الله ﷺ أن يُقتَل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفّان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وفيه بُعد، لأن المشار إِليه وإِن كان قد عاد إِلى الإِسلام، فان الهجرة انقطعت بالفتح.
والرابع: أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن أَسيد الثقفي، قاله مقاتل.
فأما قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا فقرأ الأكثرون: «فُتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، على معنى:
من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم. قال ابن عباس: فُتنوا بمعنى: عُذِّبوا. وقرأ عبد الله بن عامر:

تقدم قبل قليل، ويدل عليه ما بعده.
أخرجه الطبري ٢١٩٥٣ من رواية عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وتقدم قبل قليل.
أخرجه الطبري ٢١٩٥٥ عن عكرمة والحسن مرسلا، وهو ضعيف بذكر نزول الآية فيه، وأما استشفاع عثمان له وإعلان إسلامه فصحيح، ولعله يأتي.
__________
(١) انظر سورة البقرة: ٧، والنساء: ١٥٥، والمائدة: ٦٧.
(٢) سورة هود: ٢٢.
(٣) العنكبوت: ١٠.

صفحة رقم 588
زاد المسير في علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
تحقيق
عبد الرزاق المهدي
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
سنة النشر
1422
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية