آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ

الإيضاح
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي إذا شرعت تقرأ القرآن فاسأل الله سبحانه أن يعيذك من وساوس الشيطان الرجيم، لئلا يلبس عليك قراءتك، ويمنعك من التدبر والتفكر كما قال «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلّم مع عصمته منه فما بالك بسائر أمته ثم بين أن الناس فريقان فريق لا تسلط له عليهم وهم الذين وصفهم الله بقوله:
(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنه لا تسلط للشيطان على الذين يصدقون بلقاء الله ويفوضون أمورهم إليه، وبه يعوذون وإليه يلتجئون، فلا يقبلون ما يوسوس به ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته.
وعن سفيان الثوري أنه قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم- يريد أنهم أمروا بالاستعاذة منه، ليحفظهم الله من وساوسه التي ربما جرّتهم إلى الوقوع فى صغائر الآثام إذا وقعت على سبيل الندرة أو الغفلة.
والفريق الثاني الذين عناهم بقوله:
(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي إنما تسلطه بالغواية والضلالة على الذين يجعلونه نصيرا لهم فيحبونه ويطيعونه، ويستجيبون دعوته، والذين هم بسبب إغوائه يشركون بربهم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠١ الى ١٠٥]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)

صفحة رقم 140

تفسير المفردات
التبديل: رفع شىء ووضع غيره مكانه، وتبديل الآية: نسخها بآية أخرى، وروح القدس: جبريل عليه السلام سمى بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس:
من القرآن والحكمة والفيض الإلهى، بالحق: أي بالحكمة المقتضية له، بشر: هو جبر الرومي غلام ابن الحضرمي كان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة، والإلحاد: الميل يقال لحد وألحد:
إذا مال عن القصد، ومنه سمى العادل عن الحق ملحدا، لسان: أي كلام ويقال رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان عن مرادهما، والأعجمى والأعجم: الذي فى لسانه عجمة، من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم كان عربيا فى لسانه لكنة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالاستعاذة من وسوسة الشيطان الرجيم حين قراءة القرآن، أردف ذلك ذكر باب من أبواب فتنته ووسوسته، بإلقاء الشبهات والشكوك لدى منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكر منها شبهتين:
(١) إنه قد تنزل آية من آيات الكتاب تنسخ شريعة ماضية فيعيّرون محمدا بذلك.

صفحة رقم 141

(٢) إنهم قالوا إن ما جاء به إنما هو تعليم من البشر من بعض أهل الكتاب لا من الله، فأبطل هذه الشبهة بأنه كلام عربى مبين، وما نسبتم إليه تعليمه أعجمى، فكيف به يعلمه الكلام العربي الفصيح الذي أعجز العرب قاطبة أن يأتوا بمثله؟.
الإيضاح
(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى، والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه- قال المشركون المكذبون لرسوله: إنما أنت متقوّل على الله تأمر بشىء ثم تنهى عنه، وأكثرهم لا يعلمون ما فى التبديل من حكم بالغة.
وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادا واستكبارا.
وفى قوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) توبيخ لهم وإيماء إلى أن التبديل لم يكن للهوى، بل كان لحكمة اقتضته ودعت إليه من تغير الأحوال والأزمان، ألا ترى أن الطبيب يأمر المريض بدواء بعينه، ثم إذا عاده مرة أخرى نهاه عن ذلك الدواء وأمره بضده أو بما لا يقرب منه بحسب ما يرى من حال المريض؟.
وهكذا الشرائع إنما توضع مشاكلة للزمان والمكان والأحوال الملابسة لها، وقد يطرأ ما يغيّرها ويستدعى وضع تشريع آخر يكون أصلح للأحوال المفاجئة، والمشاهدة تدل على صدق هذا، فإنا نرى القوانين الوضعية تغيّر آنا بعد آن إذا جدما يستدعى ذلك، وقد تقدم بسط هذا فى سورة البقرة.
ثم بين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله صلى الله عليه وسلّم قد افتراه فقال:
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي قل لهم: قد جاء جبريل من عند ربى بما أتلوه عليكم، واقتضته الحكمة البالغة، من تثبيت المؤمنين وتقوية إيمانهم بما فيه من أدلة قاطعة وبراهين ساطعة، على

صفحة رقم 142

وحدانية خالق الكون وباهر قدرته وواسع علمه، وحث على النظر فى ملكوت السموات والأرض، وتشريع يرقى بالأمم فى أخلاقها وآدابها ومعارفها، إلى مستوى لا تدانيها فيه أمة أخرى.
والخلاصة- إنه نافع كل النفع لهم فى دينهم ودنياهم، فإذاهم رأوا ذلك رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم، كما أنّ فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات، ففيه ما يهذّب النفوس ويكبح جماح الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم.
وفى هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا، فهم متزلزلون ضالون لهم خزى ونكال فى الدنيا والآخرة.
ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي وإنا لنعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بنى آدم وليس بالوحى من عند الله.
فرد الله عليهم وكذبهم فى قيلهم فقال:
(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي إن لسان الذي تميلون إليه بأنه يعلم محمدا- أعجمى فهو عبد رومى فيما تزعمون، والقرآن لسان عربى مبين، فكيف يتعلّم من جاء بهذا القرآن فى فصاحته وبلاغته ومعانيه الشاملة من رجل أعجمى؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من عقل.
وخلاصة هذا- إن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمى لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن كلام عربى تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون هو ما تلقفه منه؟ هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه، فهو لم يلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمى وهذا عربى، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى هو معجز من حيث اللفظ- إلى أن العلوم الكثيرة

صفحة رقم 143

التي فى القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددا متطاولة، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقى سمع منه أخبارا بلغة أعجمية لعله لم يكن يعرف معناها.
وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم: أنتم أفصح الناس بيانا، وأقواهم حجة وبرهانا، وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فكيف تنسبونه إلى أعجمى ألكن؟.
وفى التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة، والخرافات الساذجة، أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز، ونهاية السّخف.

فدعهم يزعمون الصبح ليلا أيعمى الناظرون عن الضياء
ثم توعدهم على ما قالوا بالعقاب فى الدنيا والآخرة فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين لا يصدّقون بأن هذه الآيات من عند الله، بل يقولون فيها ما يقولون، فيقولون تارة إنها مفتريات، ويقولون أخرى إنها من أساطير الأولين- لا يهديهم الله إلى معرفة الحق الذي ينجيهم من عذاب النار، لما يعلم من سوء استعدادهم بما اجترحوا من السيئات، ودنّسوا به أنفسهم من ارتكاب الموبقات ولهم فى الآخرة إذا وردوا إلى ربهم عذاب مؤلم موجع، كفاء ما نصبوا له أنفسهم من العداء لرسوله: والتكذيب لآيات الكتاب.
ولما نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الافتراء رد الله عليهم بقوله:
(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي إنما يتخرّص الكذب ويتقوّل الباطل، الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته التي نصبها فى الكون، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا، ولا يخشون على الكذب عقابا، وهذه صفاتكم أيها المشركون لا صفات النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ومن ثم حكم عليهم بالكذب حكما صريحا فقال:

صفحة رقم 144
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية