
(صوغره، وبالع، وعمودة، وأدمة وجويم) كما هو في الاصحاح ١٤ من التكوين وجاء في الاصحاح ١٣ أنه ترك هذه المدينة خوفا من نزول العذاب فيها وصعد هو وبناته إلى الجبل وسكنوا في مغارة فيه، وفيه أن هذه المدينة لم تقلب، ويطلق على هذه القرى المؤتفكات أي المنقلبات «لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ٧٦» أي واقعة على طريق واضح لم يندرس بعد أثرها يراها الذاهب إلى الشام والآتي منها إلى الحجاز «إِنَّ فِي ذلِكَ» الأثر الباقي لهؤلاء الطغاة «لَآيَةً» عظيمة «لِلْمُؤْمِنِينَ ٧٧» المصدقين بما ذكرنا لأنهم المنتفعون بالآيات المتعظون بالعبر «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الغيضة وهي الأشجار الملتفة كالغابة وتسمى حرشا، وفي لغة أهالي دير الزور (زور) ولهذا تسمى البلدة دير الزور لأنها كانت محاطة بالغابات، وهؤلاء قوم شعيب عليه السلام «لَظالِمِينَ ٧٨» جاحدين نعم الله لا يشكرونه على ما خصهم به من الأشجار المحيطة ببلدتهم فضلا عن النعم الأخرى من أموال وأولاد «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» لتكذيبهم إياه، راجع قصتهم في الآية ٨٤ من سورة هود المارة. «وَإِنَّهُما» أي أهل الأيكة وأهل مدين لأنه عليه السلام أرسل إليها ولم يرسل نبي إلى قومين قبله مرة بعد أخرى، وإن هاتين المدينتين باق أثرهما مثل قرى قوم لوط «لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ٧٩» ظاهر على طريق مستقيم، وسمي الطريق إماما لأن المارة تسلكه فكأنها تتبعه كالإمام الذي يتبعه الناس «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ٨٠» صالحا فمن قبله لأن الحجر كانت تسكنه ثمود قوم صالح
«وَآتَيْناهُمْ آياتِنا» التي من جملتها الناقة «فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ٨١ لا يلتفتون إليها «وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ٨٢» من خوف خرابها لقوتها، فكذبوه أيضا وعقروا الناقة «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ٨٣» مع الصباح حال غفلتهم «فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ٨٤» من الأموال والأملاك من الله شيئا لإصرارهم على الكفر، وإن قراهم موجودة الآن آثارها ظاهرة للعيان بين المدينة والشام.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا

باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي. وتقدمت القصة أيضا في الآية ٦٢ فما بعدها من سورة هود المارة، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» من المخلوقات الأخرى من نام وجامد «إِلَّا بِالْحَقِّ» لا عبثا ولا باطلا ولا لهوا بل للاعتبار والتفكر ليصدق المؤمن ويجحد الكافر، فيثاب الأول ويعذب الثاني يوم الجزاء المعين لإبادتها «وَإِنَّ السَّاعَةَ» التي يكون فيها خرابها «لَآتِيَةٌ» حقا لا محالة، فيا أكرم الرسل تحمل أذى قومك في هذه الدنيا الفانية، ولا تستعجل عذابهم فهو آتيهم حتما، وإن كل ما يلبثون فيها فهو قليل «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ٨٥» أي أعرض عنهم مع الحلم عليهم والصبر على أذاهم والإغضاء مع العفو عن مساوئهم معك، وما ذكره بعض المفسرين بأن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأنها عبارة عن أن الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بأن يعامل قومه بالعفو والصفح الخاليين من الجزع والخوف وأن يظهر لهم مكارم أخلاقه الحسنة، وهذه المعاملات اللينة تكون مقدمة للمعاملات القسرية عادة عند اصرار المفترح لهم على كفرهم فأي نسخ فيها رعاك الله، راجع معنى الجميل في في الآية ٨٥ من سورة يوسف المارة «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ٨٦» بك وبهم فلا يخفى عليه ما يجري بينك وبينهم، لأنه خلق الخلق وعلم ما هم عليه وما هم فاعلون إلى يوم القيامة، قال تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) الآية ١٤ من سورة الملك الآتية، وهذه الآية المدنية من هذه السورة، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْناكَ» يا سيد الرسل «سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» قبل هي الحواميم السبع، وقيل الصحف السبعة التي أنزلت على الأنبياء قبله، وقيل الأمر والنهي والبشارة والنذارة والأمثال والأخبار وتعداد النعم، والذي عليه أكثر المفسرين هو آيات سورة الفاتحة السبع كما أشرنا إليه في تفسيرها في ج ١ «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ٨٧» المشتمل عليها بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين هي السبع الثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيه، وبه قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعطاء، وناهيك بهم قدوة. هذا وإن السبب في تسميتها سبعا لأنها سبع
صفحة رقم 312
آيات، وتسميتها بالمثاني لأنها تثنى أي تكرر في كل ركعة من الصلاة، وسميت قرآنا لإطلاق القرآن على بعض السورة فضلا عن السورة الكاملة، قال تعالى (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) الآية من أول سورة يوسف المارة أي هذه السورة، وقال تعالى أول هذه السورة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ولم ينزل القرآن كلّه فقد عبّر بالآية الأولى بالسورة عن القرآن، وفي الثانية بالآيات عنه بما يدل على جواز تسمية السورة والآية قرآنا، وما قاله البعض بأن المراد من السبع الفاتحة ومن المثاني القرآن أو أن المراد بالسبع السور السبع الطوال البقرة فما بعدها حتى براءة باعتبارها مع الأنفال سورة واحدة لعدم ذكر التسمية بينهما، أو أن المراد بها القرآن كله أقوال ضعيفة لا يعتمد عليها، والسبب في تسميتها بالمثاني لما ذكرنا ولأنها تكرر في الأدعية أيضا، وما قيل لأنها نزلت مرتين قيل لا قيمة له، وقد مرّ تنيده في تفسيرها في ج ١، والعطف من عطف الكل على الجزء إذا أريد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين، وأريد بالسبع المثاني الفاتحة فقط أو من عطف العام على الخاص إذا أريد به المعنى المشترك بين الكل والبعض، وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه، وإن أريد بها الإشباع فهو من عطف أحد الموضعين على الآخر، قال ابن الجوزي: وسبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع البرّ والطيب والجواهر، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فنزلت. أي الله أعطاكم سبع آيات خير من هذه القوافل السبع.
ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ولا تطمح بصرك أيها الإنسان الكامل «إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ» أي هذا الذي هو من حطام الدنيا الزائل أصنافا «أَزْواجاً مِنْهُمْ» من أولئك الذين جاء منهم تلك القوافل، وقد فرحوا بها حتى تماها بعض قومك فتتمنى شيئا منه أو مما أوتوا من غيرها من الأموال والأولاد والأملاك لأنك أوتيت النعمة الكبرى التي هي فوق كل نعمة، فاستغن بما أوتيت عما أوتوه فكل شيء دونه، وهذا وإن كان خطابا لحضرة الرسول فإن المراد به قومه الذين تمنوا ذلك، لأنه عليه السلام أبعد عن أن يمد بصره إلى الدنيا

وما فيها لذاتها استحسانا لها وقد يلتفت إليها بالنسبة لكفرهم بالله مع كثرة انعامه عليهم، وقد تأول سفيان بن عيينة قوله صلّى الله عليه وسلم من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا، أو ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن، فقال أي لم يستغن به عن غيره من كل ما في الدنيا، هذا من ضعف سبب النزول المذكور أعلا واحتج بأن السورة كلها مكية، وهذه الحادثة وقعت بالمدينة والحال أن هذه الآية مستثناة منها، وقد نزلت بالمدينة كما أشرنا إليه أول السورة، ويضاهي أول هذه الآية الآية ١٣٢ من سورة طه المارة في ج ١ «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» على كفار قومك لتأخرهم عن قبول هداك أو لعدم شكرهم نعم الله، فقد وقع من اتباع الرسل قبلك ما هو مثله وأكثر.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تغبطنّ فاجرا نعمته فإنك لا تدري ما هو لاقيه بعد موته إن له قاتلا لا يموت، قيل عند الله وما هو قال النار. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه.
ولمسلم أنظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزوروا نعمة الله عليكم، وجل هذا في المال الذي لا يجمع إلا بخمس خصال:
التعب في كسبه، والشغل عن الآخرة في إصلاحه، والخوف من سلبه، واحتمال اسم البخل دون مفارقته، ومقاطعة الإخوان بسببه وهو مفارقه لا محالة، قال تعالى «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ٨٨» ألن جانبك لهم وأرفق بهم، ولا تعنّفهم على كل شيء، ومن جملته تمنّيهم ذلك وإطماح بصرهم إليه، لأنه من طبع محبي الدنيا «وَقُلْ» لهم يا رسولي «إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ» لكم من عذاب الله «الْمُبِينُ ٨٩» لكم وقوعه إذا لم تؤمنوا بالله إيمانا خالصا، والموضح لكم كل ما تحتاجونه من أمر دينكم ودنياكم «كَما أَنْزَلْنا» أي أنذركم من نزول عذاب عظيم كالعذاب الذي أنزلناه «عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ٩٠» الذين آمنوا ببعض ما أنزل عليهم وكفروا ببعضه، قال تعالى (فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) الآية ٨٥ من البقرة ومثلها الآية ١٤٩ من النساء في ج ٣، أي أنهم يؤمنون بقسم من القرآن مما يوافق ما عندهم ويكفرون بما يخالفه.