آيات من القرآن الكريم

إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
ﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮ ﰿ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹ

ورابعها- أنه لما قال: نَبِّئْ عِبادِي كان معناه: نبئ كل من كان معترفا بعبوديتي، وهذا يدخل فيه المؤمن المطيع والمؤمن العاصي. وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى «١».
قصة ضيف إبراهيم وإخبارهم بإهلاك قوم لوط
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٧٧]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)

(١) تفسير الفخر الرازي: ١٩/ ١٩٤- ١٩٥

صفحة رقم 45

الإعراب:
فَبِمَ هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب، أي فبأي أعجوبة تبشروني؟
تُبَشِّرُونَ فتحت النون لأنها نون الجمع، قياسا على فتحها في جمع الاسم، نحو الزيدون، كما كسرت النون بعد ضمير الفاعل إذا كان مثنى في نحو تفعلان قياسا على كسرها في تثنية الاسم، نحو «الزيدان» حملا للفرع على الأصل. وتُبَشِّرُونَ هنا فعل متعد، والمفعول محذوف.
وقرئ: تُبَشِّرُونَ بنون خفيفة مكسورة، وأصله: تبشرونني، فاجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، وهما نون الوقاية ونون الإعراب، فحذف إحداهما تخفيفا، وحذفت ياء الإضافة وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها.
وقرئ تُبَشِّرُونَ بنون مشددة مكسورة، ولما استثقل اجتماع النونين المتحركتين، سكّن النون الأولى، وأدغمها في الثانية، قياسا على كل حرفين متحركين من جنس واحد في كلمة واحدة.
ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة قبلها تدل عليها.
إِلَّا آلَ لُوطٍ منصوب لأنه استثناء منقطع لأن (أتباع لوط) ليسوا من القوم المجرمين. وامْرَأَتَهُ منصوب على الاستثناء من آل لوط. وهذا الاستثناء يدل على أن الاستثناء من الإيجاب نفي ومن النفي إيجاب لأنه استثنى آل لوط من المجرمين، فلم يدخلوا في الإهلاك، ثم استثنى من آل لوط امْرَأَتَهُ فدخلت في الهلاك.
إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ لما دخلت اللام علقت الفعل عن العمل، مثل: قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون ٦٣/ ١].

صفحة رقم 46

أَنَّ دابِرَ.. منصوب على البدل من موضع ذلِكَ إن جعل الأمر عطف بيان، أو بدل من الْأَمْرَ إن كان الْأَمْرَ بدلا من ذلِكَ. ومُصْبِحِينَ حال من هؤُلاءِ. وعامل الحال معنى الإضافة: دابِرَ هؤُلاءِ من المضامّة والممازجة.
عَنِ الْعالَمِينَ أي عن ضيافة العالمين، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ مبتدأ، والخبر محذوف، أي لعمرك قسمي.
البلاغة:
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أسند فعل التقدير إلى الملائكة مجازا وهو لله وحده، لما لهم من القرب.
أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ كناية عن عذاب الاستئصال.
عالِيَها سافِلَها بينهما طباق.
الْقانِطِينَ الْغابِرِينَ أَجْمَعِينَ مُصْبِحِينَ مُشْرِقِينَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فيها سجع، وكذا في الضَّالُّونَ الْمُرْسَلُونَ لَصادِقُونَ.
المفردات اللغوية:
وَنَبِّئْهُمْ أخبرهم وهو معطوف على ما سبق وهو: نَبِّئْ عِبادِي وفي العطف تحقيق لهما ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة، منهم جبريل، بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط. وكلمة ضيف تستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمؤنث والمذكر.
فَقالُوا: سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، أو سلمنا سلاما. وَجِلُونَ خائفون فزعون.
لا تَوْجَلْ لا تخف. إِنَّا رسل ربك. نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل. بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي علم كثير إذا بلغ، هو إسحاق، لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود ١١/ ٧١].
أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد. عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ حال، أي مع مسّه إياي. فَبِمَ فبأي شيء. تُبَشِّرُونَ استفهام تعجب. بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق الذي لا شك فيه، أي بالصدق أو باليقين. الْقانِطِينَ الآيسين من الولد للكبر. وَمَنْ يَقْنَطُ أي لا يقنط. الضَّالُّونَ الكافرون الذي لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته، أو البعيدون عن الحق. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم؟ والخطب: الأمر الخطير. مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط، وأرسلنا لإهلاكهم. لَمُنَجُّوهُمْ لمخلّصوهم مما هم فيه لإيمانهم. قَدَّرْنا قضينا وكتبنا، والتقدير:

صفحة رقم 47

جعل الشيء على مقدار معين، وأسند الملائكة التقدير لأنفسهم مع أنه هو فعل الله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص به.
الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أي بقيت امرأته في العذاب لكفرها. فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ أي لوطا. قالَ لوط لهم. مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم. بِما كانُوا فِيهِ أي قومك. يَمْتَرُونَ يشكّون، وهو العذاب. لَصادِقُونَ في قولنا.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ اذهب بهم ليلا. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بجزء أو طائفة من الليل.
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ امش خلفهم أو على إثرهم. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم، أو يطلع على أحوالهم، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم. حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى حيث أمركم الله، وهو الشام أو مصر، ففيه تعدية الفعل: وَامْضُوا إلى حيث، وتعدية: تُؤْمَرُونَ إلى ضميره المحذوف. وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط. أَنَّ دابِرَ آخر. مَقْطُوعٌ مهلك مستأصل. مُصْبِحِينَ حال، أي يتم استئصالهم في الصباح، أي عند طلوع الصبح.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مدينة سدوم، وهي مدينة قوم لوط، أي جاء قوم لوط لما أخبروا أن في بيت لوط مردا حسانا وهم الملائكة. يَسْتَبْشِرُونَ حال، طمعا في فعل الفاحشة بهم، والاستبشار: إظهار السرور. فَلا تَفْضَحُونِ في ضيفي، والفضيحة: إظهار ما يوجب العار، فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في اقتراف الفاحشة. وَلا تُخْزُونِ ولا تذلون بسببهم، والخزي: الذل والهوان أي لا تلحقوا بي ذلا بقصدكم إياهم، بفعل الفاحشة بهم، أو لا تخجلوني فيهم، من الخزاية وهو الحياء.
أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إضافتهم أو إجارة أحد منهم، أو لم تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل غريب، وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه. هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم، فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، أو هؤلاء بناتي فتزوجوهن. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قضاء الوطر. لَعَمْرُكَ يكون بفتح العين حال القسم، وهو قسم من الله تعالى بحياة المخاطب وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي وحياتك، والعمر: بفتح العين وضمها: الحياة. سَكْرَتِهِمْ غوايتهم.
يَعْمَهُونَ يترددون. الصَّيْحَةُ صيحة جبريل، وهي الصاعقة، قال ابن جرير: وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة. مُشْرِقِينَ وقت شروق الشمس، أي داخلين في وقت الشروق.
عالِيَها أي قراهم. سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، فصارت منقلبة بهم. سِجِّيلٍ طين متحجر، طبخ بالنار، وهو لفظ معرّب. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله. لِلْمُتَوَسِّمِينَ للناظرين المتفكرين

صفحة رقم 48

المعتبرين. وَإِنَّها قرى قوم لوط. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك قريش إلى الشام، بنحو واضح لم تندرس آثارها، يمر بها الناس ويرون آثارها، أفلا يعتبرون بها. لَآيَةً لعبرة.
لِلْمُؤْمِنِينَ بالله ورسله.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذرا عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء. وكان ذكر هذه القصص تفصيلا للوعد والوعيد، فبدأ أولا بقصة إبراهيم عليه السلام للبشارة بغلام عليم، ثم ذكر إهلاك قوم لوط، لاقترافهم جريمة فاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين.
التفسير والبيان:
وأخبرهم يا محمد عن ضيوف إبراهيم المكرّمين، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، فقالوا حين دخلوا عليه: سلاما، أي سلاما من الآفات والآلام والمخاوف. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى: أبا الضيفان.
فقال إبراهيم للضيوف: إنا خائفون منكم لدخولهم عليه بلا إذن، أو لما رأى أيديهم لا تمتد إلى ما قربه إليهم من الضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ (المشوي بالحجارة المحماة). وهذا يعني أنهم يبيتون شرا، كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ، نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود ١١/ ٧٠].
فأجابوه بقولهم: لا تَوْجَلْ لا تخف، وفي سورة هود: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [٧٠] فهذا تعليل النهي عن الوجل في تلك السورة، وأما هنا فعللوا ذلك بقولهم: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي أتينا لبشارتك بميلاد غلام ذي علم وفطنة وفهم لدين الله لأنه سيكون نبيا، وهو إسحاق عليه

صفحة رقم 49

السلام، كما تقدم في سورة هود [٧١] وفي سورة الصافات: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [١١٢].
قالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي.. أجاب إبراهيم متعجبا من مجيء ولد حال كبره وكبر زوجته، ومتحققا من الوعد، أبشرتموني بذلك بعد أن أصابني الكبر، فبأي أعجوبة تبشروني، أو إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء.
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به: قالُوا: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ.. أي قال ضيوف إبراهيم له: بشرناك بما هو حق ثابت إذ هو صنع الله ووعده الذي لا يتخلف، فلا تكن من القانطين اليائسين، فالذي أوجد الإنسان من التراب من غير أب وأم قادر على إيجاده من أي شيء، كأبوين عجوزين، أي أن إبراهيم استعظم نعمة الله عليه في وقت غير مألوف عادة، لا أنه استبعد ما هو داخل في نطاق القدرة الإلهية.
فأجابهم قالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ.. أي أجاب إبراهيم الضيوف بأنه ليس يقنط، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك، ولا ييأس من رحمة الله إلا الضالون: أي المخطئون طريق الصواب، كما قال يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف ١٢/ ٨٧].
ثم بعد تأكد إبراهيم الخليل عليه السلام من هذه البشرى وعلمه أنهم ملائكة، وذهاب الروع عنه، سألهم عن أمرهم بسبب مجيئهم مختفين: قالَ: فَما خَطْبُكُمْ.. أي قال لهم: فما شأنكم وما الأمر الذي أرسلتم به غير البشرى أيها الملائكة المرسلون؟ كأنه فهم من قرائن الأحوال أن لهم مهمة أصلية غير البشرى لأن البشرى كما حدث لزكريا ومريم يكفيها واحد.

صفحة رقم 50

فأجابوه: قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا.. أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين مشركين هم قوم لوط، الذين يتعاطون المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء، لنهلكهم.
ثم أخبروه أنهم سينجّون آل لوط جميعهم من بينهم إلا امرأته التي كانت متواطئة مع قومها، فإنها من الغابرين، أي الباقين مع الكفرة الهالكين، فإنا مخلصوهم أجمعين من ذلك العذاب: عذاب الاستئصال، إلا امرأة لوط، قضى الله عليها أن تكون مع المهلكين، لإعانتهم على مقاصدهم الخبيثة.
وقد أضاف الملائكة التقدير في قولهم: قَدَّرْنا إلى أنفسهم، مع أنه لله تعالى، لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى، كما يقول خاصة الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا، والآمر هو الملك، وليس هم.
ثم بدأت قصة الدمار والعذاب ومجيئهم إلى لوط عليه السلام فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ.. أي لما انتهت مهمة الملائكة مع إبراهيم فبشروه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين، ذهبوا بعدئذ إلى لوط وآله في صورة شباب حسان الوجوه، في بلدهم (سدوم) ولم يعرف لوط وقومه أنهم ملائكة الله، كما لم يعرفهم إبراهيم بادئ ذي بدء، فقال لهم لوط: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي إنكم قوم غير معروفين لدي، تنكركم نفسي، وأخاف أن تباغتوني بشر، فمن أي الأقوام أنتم؟! كما جاء في آية أخرى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً، سِيءَ بِهِمْ، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود ١١/ ٧٧]. وقيل: أنكر حالتهم، وخاف عليهم من إساءة قومه، لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه.
فأجابوه بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي قالت الملائكة له: جئناك بما يسرّك، وهو عذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم، ويكذبونك فيه قبل مجيئه.

صفحة رقم 51

ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق واليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه، وهو عذاب قوم لوط، وهذا مثل قوله تعالى:
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر ١٥/ ٨].
وَإِنَّا لَصادِقُونَ وهذا تأكيد آخر، أي وإنا لصادقون فيما أخبرناك به، من هلاكهم ونجاتك مع أتباعك المؤمنين.
وإنما وصفوا مهمتهم بهذا الوصف، ولم يصرحوا بعذابهم، لإفادة تحقق عذابهم، وإثبات صدقه عليه السلام فيما دعاهم إليه.
ثم جاءت مرحلة التنفيذ وبيان خطة النجاة للوط وأتباعه، فقالوا له:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فسر بأهلك بعد مضي جزء من الليل، وأهله: ابنتاه فقط وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي وامش وراء أهلك ليكون أحفظ لهم.
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم، فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما أصابهم من العذاب والنكال، حتى لا يرق قلبه لهم.
وأكدوا النهي بقوله: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي سيروا بأمر ربكم غير ملتفتين إلى ما وراءكم، إلى الشام، كما قال ابن عباس، أو حيث يوجهكم جبريل الذي أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة، لم يعمل أهلها مثل عمل قوم لوط.
وأوحى الله إليه أن التنفيذ سريع الحصول فقال: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي وأوحينا إليه أو تقدمنا إليه أن أمر هلاكهم مقضي قضاء مبرما، وأن آخر هؤلاء وأولهم مستأصل وقت الصباح، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود ١١/ ٨١]. فقوله: دابِرَ هؤُلاءِ يعني آخرهم، أي يستأصلون عن آخرهم، حتى لا يبقى منهم أحد.
ثم ذكر الله تعالى في ثنايا القصة ما عزم عليه قوم لوط من الإساءة لهؤلاء

صفحة رقم 52

الضيوف، فقال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ أي جاء قوم لوط أهل سدوم، حين علموا بأضيافه وصباحة وجوههم، مستبشرين بهم فرحين، أملا في ارتكاب الفاحشة معهم. وهذا جرم فظيع، وأمر مستهجن، ينافي الأعراف والأذواق السليمة من إكرام الغريب والإحسان إليه.
قيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن، اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: إن امرأة لوط أخبرتهم بذلك. وعلى أي حال قال القوم: نزل بلوط ثلاثة من المرد، ما رأينا قط أصبح وجها، ولا أحسن شكلا منهم، فذهبوا إلى دار لوط.
فقال لهم لوط جملتين مؤثّرتين، الأولى: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي هؤلاء ضيوف، فلا تفضحوني فيهم، أي بارتكاب ما يؤدي إلى العار معهم، والضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموهم بالسوء، كان ذلك إهانة لي.
والثانية مؤكدة للأولى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي وخافوا عذاب الله، ولا تخزون أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي، ولا توقعوني في الخزي (أي الهوان) والعار، بالإساءة لهم.
فأجابوه: وقالُوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، ونهيناك أن تضيف أحدا.
فأجابهم قالَ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال لوط لقومه مرشدا لهم: تزوجوا النساء اللاتي أباحهن الله لكم، وتجنبوا إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمري. والمراد ببناته: نساء قومه لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم، كما قال تعالى في حق نبينا النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب ٣٣/ ٦] وفي قراءة أبيّ: وهو أب لهم.
وقيل: المراد بناته من صلبه، أي التزوج بهن.

صفحة رقم 53

وهذا كله، وهم غافلون عما يراد بهم، ويحيط بهم من البلاء، وماذا يصبحهم من العذاب المستقر، لهذا قال تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو قالت الملائكة للوط:
لَعَمْرُكَ، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي أقسم بحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا أيها الرسول- وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع- إنهم في غوايتهم يتحيرون، فلا يلتفتون إلى نصيحتك، ولا يميزون بين الخطأ والصواب.
وسَكْرَتِهِمْ ضلالتهم، ويَعْمَهُونَ يترددون أو يلعبون.
قال ابن عباس: ما خلق الله وما ذرأ، وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره.
ثم أخبر الله تعالى عن نوع عذابهم فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي فنزل فيهم صيحة جبريل عليه السلام: وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها، فقوله مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق، لذا قال أولا مُصْبِحِينَ ثم قال هنا مُشْرِقِينَ.
وأخذ الصيحة: قهرها لهم وتمكنها منهم، وقد أدت بهم إلى رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم.
والصيحة: صوت شديد مهلك من السماء.
وهذا ما تضمنه قوله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي جعلنا عالي المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها أي في أعماقها، فانقلبت عليهم، وأنزل تعالى عليهم حجارة من طين متحجر طبخ بالنار.
يظهر مما سبق أن الآية ذكرت أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب هي:

صفحة رقم 54

١- الصيحة الهائلة المنكرة.
٢- أنه جعل عاليها سافلها.
٣- أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل.
ثم ذكر تعالى العبرة من تلك القصة، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي إن في ذلك العذاب الواقع بقوم لوط لدلالات للمتأملين المتفرّسين، الذين يتعظون بالأحداث، ويتفهمون ما يكون لأهل الكفر والفواحش من عقاب أليم.
وبالمناسبة:
روى البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
ثم وجّه تعالى أنظار أهل مكة وأمثالهم إلى الاعتبار بما حدث فقال:
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي وإن مدينة سدوم التي أصابها هذا العذاب لبطريق واضح، لا تخفى على المسافرين المارّين بها، فآثارها ما تزال باقية إلى اليوم، في الطريق من الحجاز إلى الشام، كما قال تعالى في آية أخرى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٣٧- ١٣٨]. فقوله:
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي بطريق واضح.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجاءنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله، أي إن المنتفعين حقا من مغزى القصة هم المؤمنون الذين يدركون أن العذاب انتقام من الله لأنبيائه. أما غير المؤمنين بالله، فينسبون الدمار للطبيعة والشؤون الأرضية.

صفحة رقم 55

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت القصة إلى ما يأتي:
١- تعليم أدب الضيف بالتحية والسلام حين القدوم على الآخرين.
٢- وصف أحاسيس المضيف ومخاوفه حين تقديم الطعام لضيفه وامتناعهم عن الأكل.
٣- كانت بشارة الملائكة لإبراهيم بولادة إسحاق سببا في طرد مخاوفه وإشعاره بالأمن والسلامة.
٤- كان استفهام إبراهيم الخليل استفهام تعجب من مخالفة العادة، وحصول الولد حال الشيخوخة التامة من الأبوين معا، ولم يكن استفهامه استبعاد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر لأن إنكار قدرة الله تعالى حينئذ كفر.
٥- أكد الملائكة البشارة، وأنها حق ثابت لا خلف فيه، وأن الولد لا بد منه، ثم نهوه عن القنوط واليأس. ويلاحظ أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهي عنه، كما في قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب ٣٣/ ٤٨].
وقد نفى إبراهيم القنوط عن نفسه قائلا وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. وهذا يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه، لا أنه قنط من رحمة الله تعالى.
٦- لا خلاف في اللغة العربية في أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فقوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ استثنى آل لوط من القوم المجرمين، فهم ناجون، ثم استثنى امرأته من آل لوط، فهي هالكة.

صفحة رقم 56

٧- لم يعرف لوط وآله أن الضيوف ملائكة، كما لم يكن إبراهيم قد عرفهم.
وقيل: كانوا شبابا، ورأى جمالا، فخاف عليهم من فتنة قومه، فهذا هو الإنكار في قوله قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
٨- ليس محمودا إطالة المكث أو النظر إلى آثار القوم الذين دمرهم الله، ويسن الإسراع حين المرور في تلك الديار لأنها أماكن غضب ولعنة.
٩- نهى الله تعالى لوطا وأتباعه عن الالتفات أثناء نزول العذاب بقوم لوط، حتى لا تأخذهم الشفقة عليهم، وليجدّوا في السير، ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح.
١٠- كان تصميم قوم لوط على ارتكاب الفاحشة مع هؤلاء الضيوف دليلا ماديا آخر على فحشهم وكفرهم وضلالهم.
١١- قول لوط عليه السلام: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ سواء كنّ بناته الصلبيات أو نساء قومه: إرشاد إلى الشيء المباح غير الحرام، أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. ويكفر من فهم غير ذلك لأن الزنى حرام في كل الملل والأديان، ولا يقره نبي قط ولو للضرورة.
١٢- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ: قال القاضي عياض وابن العربي فيه:
أجمع أهل التفسير في هذا: أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم، تشريفا له، وأن قومه من قريش في سكرتهم أي في ضلالتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.
ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوط، أنهم كانوا في سكرتهم يعمهون، وأن الملائكة قالت له لَعَمْرُكَ...
ويكره لدى كثير من العلماء أن يقول الإنسان: لعمري لأن معناه:

صفحة رقم 57
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية