آيات من القرآن الكريم

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
ﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ

قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٤٠] فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِغْوَاءِ الْمُخْلِصِينَ صَدَّقَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فَلِهَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعِبَادُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ إِبْلِيسُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ اسْتِثْنَاءً، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فَإِنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُنْقَادِينَ لَكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً، بَلْ تَكُونُ لَفْظَةُ (إلا) بمعنى لكن، وقوله: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَأَشْيَاعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْغَاوِينَ.
ثم قال تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا سَبْعُ طَبَقَاتٍ: بَعْضُهَا فَوْقَ الْبَعْضِ وَتُسَمَّى تِلْكَ الطَّبَقَاتُ بِالدَّرَكَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قَرَارَ جَهَنَّمَ مَقْسُومٌ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ: وَلِكُلِّ قِسْمٍ بَابٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَوَّلُهَا: جَهَنَّمُ. ثُمَّ لَظَى. ثُمَّ الْحُطَمَةُ. ثُمَّ السَّعِيرُ. ثُمَّ سَقَرُ. ثُمَّ الْجَحِيمُ. ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الطَّبَقَةُ الْأُولَى: فِيهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُونَ. وَالثَّانِيَةُ: لِلْيَهُودِ. وَالثَّالِثَةُ: لِلنَّصَارَى. وَالرَّابِعَةُ: لِلصَّابِئِينَ.
وَالْخَامِسَةُ: لِلْمَجُوسِ. وَالسَّادِسَةُ: لِلْمُشْرِكِينَ. وَالسَّابِعَةُ: لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُهُ: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَالْبَاقُونَ (جَزْ) بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: (جَزٌّ) بِالتَّشْدِيدِ، كَأَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الزَّايِ، كَقَوْلِكَ: خَبَّ/ فِي خَبْءٍ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْجُزْءُ بَعْضُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ الْأَجْزَاءُ، وَجَزَّأْتُهُ جَعَلْتُهُ أَجْزَاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يجزي أَتْبَاعَ إِبْلِيسَ أَجْزَاءً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ أَقْسَامًا وَفِرَقًا، وَيُدْخِلُ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ جَهَنَّمَ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكُفْرِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ، فَلَا جَرَمَ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ مُخْتَلِفَةً بِالْغِلَظِ والخفة، والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَتْبَعَهُ بِصِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ:

صفحة رقم 146

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْقَائِلُونَ بِالْوَعِيدِ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا جَمِيعَ الْمَعَاصِي. قَالُوا: لِأَنَّهُ اسْمُ مَدْحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفْرَ بِهِ. وَأَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ الصَّحِيحُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ الْآتِي بِالتَّقْوَى مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا أَنَّ الضَّارِبَ هُوَ الْآتِي بِالضَّرْبِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْقَاتِلَ هُوَ الْآتِي بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ ضَارِبًا وَقَاتِلًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِدْقِ الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّقْوَى، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَكُونُ آتِيًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْآتِي بِالتَّقْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَّقِيًا، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ/ لِكُلِّ مَنِ اتَّقَى عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا الحكم، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ إبليس: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٤٠] وَعَقِيبَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] فَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ اعْتَبَرْنَا الْإِيمَانَ فِي هَذَا الحكم فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِيهِ قَيْدٌ آخَرُ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ لَمَّا كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَكُلَّمَا كَانَ التَّخْصِيصُ أَقَلَّ كَانَ أَوْفَقَ لِمُقْتَضَى الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا تَقْرِيرٌ بَيِّنٌ، وَكَلَامٌ ظَاهِرٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَمَّا الْجَنَّاتُ فَأَرْبَعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةً وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لَا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ حُصُولُ هَذَا الْخَوْفِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْعُيُونُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّدٍ: ١٥] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ يَنَابِيعَ مُغَايِرَةً لِتِلْكَ الْأَنْهَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ يَخْتَصُّ بِعُيُونٍ، أَوْ تَجْرِي تِلْكَ الْعُيُونُ مِنْ بَعْضٍ إِلَى بَعْضٍ قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الوجهيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ أَحَدٍ بِعَيْنٍ وَيَنْتَفِعَ بِهِ كُلُّ مَنْ فِي خِدْمَتِهِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَعَلَى حَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَجْرِي مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ مُطَهَّرُونَ عَنِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلَ لِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بَعْضَ مَلَائِكَتِهِ، وَفِيهِ سُؤَالٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَإِذَا كَانُوا فِيهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لهم: ادْخُلُوها.

صفحة رقم 147

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ قِيلَ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِيهَا: ادْخُلُوها بِسَلامٍ. الثَّانِي:
لَعَلَّ الْمُرَادَ لَمَّا مَلَكُوا جَنَّاتٍ كَثِيرَةً فَكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْ جَنَّةٍ إِلَى أُخْرَى قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوهَا وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ الْمُرَادُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ فِي الْحَالِ وَمَعَ الْقَطْعِ بِبَقَاءِ هَذِهِ السَّلَامَةِ، وَالْأَمْنِ مِنْ زَوَالِهَا.
ثم قال تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وَالْغِلُّ الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ/ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَغَلَّ فِي جَوْفِهِ وَتَغَلْغَلَ، أَيْ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا غِلٌّ عَلَى آخَرَ نَزَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ،
وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنْهُمْ،
وَحُكِيَ عَنِ الْحَرْثِ بْنِ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ دَخَلَ زَكَرِيَّا بْنُ طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَبُوكَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فَقَالَ الْحَرْثُ: كَلَّا بَلِ اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ لَا أُمَّ لَكَ يَا أَعْوَرُ،
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحْبَسُونَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَدْ نَقَّى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ، وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ،
وَقَوْلُهُ: إِخْواناً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ بَلِ الْمُرَادُ الْأُخُوَّةُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالْمُخَالَصَةِ كَمَا قَالَ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] وَقَوْلُهُ: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ السَّرِيرُ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ أَسِرَّةٌ وَسُرُرٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: سُرُرٌ وَسُرَرٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَذَا كُلُّ فَعِيلٍ مِنَ الْمُضَاعَفِ فَإِنَّ جَمْعَهُ فُعُلٌ وَفُعَلٌ نَحْوَ: سُرُرٌ وَسُرَرٌ، وَجُدُدٌ وَجُدَدٌ قَالَ الْمُفَضَّلُ: بَعْضُ تَمِيمٍ وَكَلْبٍ يَفْتَحُونَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ ضَمَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: السَّرِيرُ مَجْلِسٌ رَفِيعٌ مُهَيَّأٌ لِلسُّرُورِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَجْلِسُ سُرُورٍ. قَالَ اللَّيْثُ: وَسَرِيرُ الْعَيْشِ مُسْتَقَرُّهُ الَّذِي اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ فِي حَالِ سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَالسَّرِيرُ مِثْلُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى الْجَابِيَةِ، وَقَوْلُهُ: مُتَقابِلِينَ التَّقَابُلُ التَّوَاجُهُ، وَهُوَ نَقِيضُ التَّدَابُرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ أَشْرَفُ الْأَحْوَالِ وَقَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ النَّصَبُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ أَيْ لَا يَنَالُهُمْ فِيهَا تَعَبٌ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ خُلُودًا بِلَا زَوَالٍ وَبَقَاءً بِلَا فَنَاءٍ، وَكَمَالًا بِلَا نُقْصَانٍ، وَفَوْزًا بِلَا حِرْمَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلثَّوَابِ أَرْبَعَ شَرَائِطَ: وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعَ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ دَائِمَةً.
أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ كَوْنُهَا مَنْفَعَةً فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهَا مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا الْكَلَامَ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْإِجْلَالِ.
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَضَارَّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رُوحَانِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جُسْمَانِيَّةً، أَمَّا الْمَضَارُّ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ الْحِقْدُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغِلُّ، وَالْغَضَبُ، وَأَمَّا الْمَضَارُّ الْجُسْمَانِيَّةُ فَكَالْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ فَقَوْلُهُ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ/ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمَضَارِّ الرُّوحَانِيَّةِ وَقَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمَضَارِّ الْجُسْمَانِيَّةِ.

صفحة رقم 148
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية