به ولا منفصل عنه، وليس بجسم يحل بالبدن حلول الماء في الإناء، ولا هو عرض يحل بالقلب أو الدماغ حلول السّواد في الأسود والعلم في العالم، وقد تقدم هذا البحث مستوفيا في الآية ٨٥ من سورة الإسراء في ج ١ «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ٢٩» سجود تحية لا سجود عبادة والخطاب للملائكة أو أن السجود لله تعالى يجعل آدم عليه السلام بمنزلة القبلة لهم لما ظهر فيه من أعاجيب آثار قدرة الله تعالى وحكمته، وعليه قول حسان رضي الله عنه:
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وفي هذه الآية دليل على جواز تقدم الأمر على وقت الفعل، فيكون حد الأمر بكونه ملابسا للفعل به ليس على إطلاقه «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٣٠» تأكيد لعدم تخلف أحد منهم «إِلَّا إِبْلِيسَ» لأنه في الأصل لم يكن من الملائكة، ولهذا كان الاستثناء منقطعا، ومن قال إنه متصل لم يقل إنه من جنس الملائكة كما هو الشرط في تعريف الاستثناء المتصل، بل لأنه كان حين الأمر الإلهي معهم، وقد أمرهم كلهم بالسجود فسجدوا ولم يسجد هو لسابق سقائه، فاستثني منهم على طريق التغليب، لأن أصله من الجن، راجع الآية ٥٣ من سورة الكهف الآتية، أي أنه خرج عن طاعته لأنه «أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ٣١» من الملائكة الذين كان معهم حين الأمر «قال» تعالى موبخا له ومؤنبا سوء صنيعه على امتناعه «يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ٣٢» أخالفت أمري «قال» عليه اللعنة متقدما في حجته الواهية معتذرا عن السجود بعذره السخيف «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٣٣» تقدم تفسيره أي وقد خلقتني قبله من النار والنار أفضل من الطين، وهو قياس مغلوط، لأن الفاضل من فضله الله، وليس لأصل الخلقة أو أصل المخلوق دخل في التفضيل، ولو أراد الله هداه لامتثل وما عليه أن يسجد بأمر الله لآدم أو غيره، لأن القصد الامتثال لا غير. راجع مقاييس إبليس في الآية ١٢ من الأعراف المارة في ج ١، «قال» تعالى لإبليس بعد أن أظهر عناده وعتوه وحسده لآدم أمام الملائكة كما هو ثابت في علم الله
صفحة رقم 299
«فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة ويستلزم الخروج منها الخروج من السماء أيضا، والخروج من زمرة الملائكة الذين كانوا يغبطونه على ما هو عليه من العبادة لله والعلوم والمعارف التي أنتجت ذلك الغلو وانبثقت عن الجهل المفرط الراسخ في قلبه، إذ ظن أن الفضل باعتبار المادة، وما درى أن يكون باعتبار التحلي بالمعارف الرّبانية، قال:
فشمال والكأس فيها يمين
ويمين لا كأس فيها شمال
وما عرف أن الأدب هو المقدم الأول في الفضائل كلها ولله در القائل:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
ولما فضح الله سريرته على ملأ من الملائكة الذين كانوا يحترمونه ويفضلونه على أنفسهم وأبان لهم قريطه، وعلموا أن عبادته ونشر علمه بينهم في مخالطته لهم رياء لنشر السمعة والصيت بينهم بقصد التعاظم عليهم أمره بالخروج من بين الطائعين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به من قبله. قال جل جلاله مبينا جزاءه الدنيوي على مخالفته هذه واحتجاجه الواهي ومقابلة عظمة ربه بما فاه به على رؤوس الأشهاد وبيّن العلّة في ذلك بقوله عزّ قوله «فَإِنَّكَ» بامتناعك هذا «رَجِيمٌ ٣٤» طريد من الرحمة والكرامة بعيد من العطف واللطف «وأنّ عليك اللّعنة» عقوبة لك في الدنيا مني ومن خلقي مستمرة «إِلى يَوْمِ الدِّينِ ٣٥» يوم الجزاء الذي يكون عليك فيه العذاب المهين الدائم، ولم يجعل الله حدّ ابعاده عن فيض رحمته بضرب هذا الأجل كما يفهمه البعض من معنى إلى النائية، بل جعله غاية في البعد لأنه أي يوم القيامة أبعد ما يضرب الناس المثل في كلامهم إليه من الآجال البعيدة لا أنها أي اللعنة تنقطع عنه بعد ذلك اليوم، كلّا بل تكون في الدنيا مستمرة بلا عذاب حسّي من الله والناس أجمعين، وفي الآخرة دائمة عليه أيضا مع العذاب الأكبر الباقي، ولما عرف الخبيث أن سقط في يده ولم يبق له بدّ من تلافي عصيانه لربه ولا أمل في فيض رحمته، أراد بحسب طويته النجسة أن يتمادى في الضلال والإضلال «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٣٦» أي كافة مخلوقاتك، لأنه عارف بالبعث بعد الموت، وأنه لا موت بعد
صفحة رقم 300
البعث، يقصد أن لا يموت أبدا، فينجو من العذاب الأخروي، لأنه إذا بقي يوم البعث يكون حاله حال الخلق بعد البعث لا يموتون أبدا، لأن هذه الحياة حياة موقته مهما طال أجلها وتلك حياة دائمة ما بعدها إلا الخلود في الجنة رزقنا الله إياها، أو الخلود في النار أجارنا الله منها. «قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ٣٧» المؤخرين ولكن «إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ٣٨» أي موت جميع الخلق السابق علمه بأنه سيموت على كفره قال تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية ٨٨ من القصص المارة في ج ١ وإجابته تعالى له بتأخير أجله لا إكراما له ولا لميزته على غيره، بل زيادة في شقائه، ولو أراد به خيرا لوفقه لطلب العفو عن جرمه وقبول توبته، ولكن حق قوله عليه في الأزل بشقائه، ولا راد لما قدره وقضاه. ولما عرف عدم إجابة طلبه كما أراد وأنه تعالى سيميته على كفره الذي عاش عليه ويبعثه على ما مات عليه وانقطع أمله مما توخّاه، صرح بما أكنه في قلبه من الغلّ والحقد لعباد الله،
مطلب جهل إبليس وأن المزين في الحقيقة هو الله، وأن مبنى الأيمان على العرف وخلق الأفعال: «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ» أي آدم وذريته ما داموا «فِي الْأَرْضِ» وقدمنا في آيات متعددة أن المزيّن في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو أقدر إبليس عليه أي أنه يزين حب الدنيا لهم مدة حياتهم وبقائهم على أرضها، وأحبذ لهم معصيتك «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ» في زخارفها وشهواتها حتى يضلوا طريقك السوي «أَجْمَعِينَ ٣٩» بحيث لا أترك منهم أحدا إلا صددته عن الهدى، وقد حدى بالملعون سائق الانتقام فأقسم على أن يجتهد في إغواء آدم وذريته من بعده لأنه السبب الظاهري في طرده وعنائه وقد جاء القسم في الآية ٨٢ من سورة ص بلفظ (فَبِعِزَّتِكَ) لأن الحلف على ما قاله العراقيون بصفات الذات كالعزّة والعظمة والقدرة يمين، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والسخط والعذاب ليس بيمين، وقد حلف الخبيث بكليهما، على أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف
صفحة رقم 301
به يكون يمينا، وما لا فلا، وهذه الآية حجة على القائلين في خلق الأفعال وأن حملهم إياها على التسبّب عدول عن الظاهر. وليعلم أن في تمكين إبليس من الإغواء ردّ على القائلين بوجوب رعاية الأصلح من المعتزلة، وردّ على زعم من قال إن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أدنى أحد منهم فقد خرج عن الفطرة البشرية، فحينئذ الذي تحكم به الفطرة هو أن الله تعالى أراد بالأنظار إضلال بعض الناس، فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقول هذا الزاعم على حد قول قائلهم:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوبا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
الذي رد عليه أهل السنة والجماعة بقوله:
إن حفه اللطف لم يمسسه في بلل
ولم يبال بتكتيف وإلقاء
وإن يكن قدر المولى بغرفته
فهو الغريق وإن أضحى بصحراء
والسبب الذي حدى بأهل الاعتزال على هذه الأقوال هو عدم اعترافهم بأن للإنسان جزء اختياريا وهو إقدام العاصي على المعصية عن رغبة ورضى، وأن قولهم أن ما يقع منه مقدر عليه، ولكنه فيما يفعله طائعا مختارا لا يعلم أنه مقدر عليه، وأنه إنما يفعله تبعا لتقدير الله، فلو أن إبليس حينما امتنع عن السجود كان امتناعه تبعا لما هو في علم الله وقد علم ذلك وامتنع لما طرده ربه، ولكن امتناعه كان حسدا لآدم، لأنه بالسجود له يصير مفضلا عليه، وأن نفسه الخبيثة تأبى أن يفضل أحد عليه، وكذلك مقترف المعاصي لو أنه إنما يقترفها لعلمه بأن الله قدرها عليه أو أنه إنما فعلها تنفيذا لأمره لا لشيء آخر لما عذبه الله، ولكن إنما يفعل المعصية لمجرد شهوة نفسه الخبيثة، مع علمه أن الله حرّمها عليه، فلذلك يعاقب ويعذب، تدبر. وهذا الملعون غلط غلطة لا تلافي لها، إذ يجب على المحب امتثال أمر المحبوب مهما كان، أعجز الخبيث أن يكون مثل ابن الفارض الصادق في محبته إذ يقول: