
قال القاضي أبو محمد: فجعلوا معنى صَلْصالٍ ومعنى حَمَإٍ في لزوم أنتن شيئا واحدا.
قال القاضي أبو محمد: و «الحمأ» جمع حمأة وهو الطين الأسود المنتن يخالطه ماء. و «المسنون» قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير.
قال القاضي أبو محمد: والتصريف يرد هذا القول. وقال ابن عباس: «المسنون» : الرطب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير لا يخص اللفظة. وقال الحسن: المعنى: سن ذريته على خلقه. والذي يترتب في مَسْنُونٍ إما أن يكون بمعنى محكوك محكم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المسن والسنان، وقولهم: سننت السكين وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر: [الخفيف]
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا | ء وتمشي في مرمر مسنون |
الْجَانَّ يراد به جنس الشياطين، ويسمون: جنة وجانا لاستتارهم عن العين. وسئل وهب بن منبه عنهم فقال: هم أجناب، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والجأن» بالهمز.
قال القاضي أبو محمد: والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث: «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر». وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله مِنْ قَبْلُ لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق. والسَّمُومِ- في كلام العرب- إفراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح. وقالت فرقة: السموم بالليل، والحرور بالنهار.
قال القاضي أبو محمد: وأما إضافة نارِ إلى السَّمُومِ في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعا، ويكون السَّمُومِ أمرا يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم: مسجد الجامع، ودار الآخرة، على حذف مضاف.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) صفحة رقم 359

إِذْ نصب بإضمار فعل تقديره: اذكر إذ قال ربك، و «البشر» هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد، في الأشهر من القول. ومنه قول النبي عليه السلام: «وافقوا البشر». وقيل: البشرة ما يلي اللحم، ومنه قولهم في المثل: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر.
وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور- فهي مخلوقات لطاف- فأخبرهم: أنه لا يخلق جسما حيا ذا بشرة وأنه يخلقه مِنْ صَلْصالٍ.
قال القاضي أبو محمد: «والبشر» والبشارة أيضا أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.
وسَوَّيْتُهُ معناه: كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله: مِنْ رُوحِي إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس.
وقوله: فَقَعُوا من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم، وإشارة، كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر [أبي الأخزر الحماني] :[الطويل]
فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها | كما سجدت نصرانة لم تحنف |
وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس: أنه قال: خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس- من الأولين- يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد: في أنه بقي منهم.
وقوله: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ هو- عند سيبويه- تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول. وقال غيره: كُلُّهُمْ لو وقف عليه- لصلحت للاستيفاء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كل الناس يعرف كذا، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال:
أَجْمَعُونَ رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد. وقال ابن المبرد:
لو وقف على كُلُّهُمْ لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال: أَجْمَعُونَ دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.
قال القاضي أبو محمد: واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله: أَجْمَعُونَ حالا. بمعنى مجتمعين، صفحة رقم 360