ترزقوها، لأن الله يرزقكم وإياها، فلا تظنوا أنكم الرازقون لها ولما خولكم منها.
وكلمة معايش لم تكرر إلا في الآية ٩ من سورة الأعراف المارة في ج ١،
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» من كل ما يطلق عليه لفظ شيء وتخصيص بعض المفسرين كلمة شيء هنا بالمطر تحكم وتقيبد لا معنى لهما، أي لا يوجد في الكون شيء «إِلَّا عِنْدَنا» نحن إله الكل وخالق الكون بما فيه ورازقه «خَزائِنُهُ» من كل ما يحتاجه البشر والحيوان والطير والحوت والدود وهو جمع خزانة بكسر الخاء، ومن نوادر ما قالوا لا تفتح الخزانة ولا تكسر القصعة وهي اسم للمكان والمحل الذي يحفظ فيه نفائس الأموال والحلي «وَما نُنَزِّلُهُ» من تلك الخزائن الموجودة في علمنا «إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ٢١» معين لكل شيء مما خلقناه لكل منها ما يناسبها بقدر كفايته حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وتريده المشيئة مع إمكان إنزال ما يزيد على الحاجة، لأن خزائنه تعالى لا تنفد وإمكان ما ينقص عن الحاجة لأمر يريده، راجع الآية ٢٦ من سورة الرعد الآتية. هذا وان ما يرى من كثرة الرزق عند بعض الناس فهو عبارة عن حفظه لديهم لغيرهم، لأنهم لا يرزقون منه إلا بقدر ما قدر لهم منه مما تستوجبه المصلحة، وما يرى من قلته على أناس فهو أيضا بتقديره تعالى لأمر يريده بهم، لأنه يعلم أنه لو نقص على الأول وزاد للآخر لضرّ بهما، قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) الآية ٢٧ من سورة الشورى، وكذلك لو قتّر على بعض عباده لبغى بعضهم على بعض، فقد جاء في الحديث القدسي: ومنهم من إن أعنيته لبغى، ومنهم من إن أفقرته لكفر. ولهذا فإنه تعالى يعطي كلا ما يناسبه كي لا يبغي الفقير ولا يكفر الغني المترتب على الحكمة فقرهم وغناهم، وما قيل إن المراد بالخزائن هنا المطر لأنه سبب الأرزاق لجميع المخلوقات ينفيه لفظ الآية، والمطر داخل فيه لأنه مما يحتاجه الخلق، وقد ضرب الله الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور، وتطلق الخزانة على الصّندوق الحديدي الذي يخزن فيه الذهب والفضة وغيرها، وعلى الخزانة الخشبية التي تحفظ فيها الألبسة وغيرها، قال تعالى «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» حوامل بالسحاب ضد العقيمة لأنها تحمل السحاب في جوفها من بخار الماء ثم تدرّه كما تدر
اللقحة ثم تمطر، وهو معنى قوله تعالى «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ» بأن جعلناه لكم ولأنعامكم وأراضيكم، ويدخل فيه جميع مخلوقاته سقيا من نتاج الرياح المذكورة «وَما أَنْتُمْ لَهُ» لهذا الماء أيها الناس «بِخازِنِينَ ٢٢» في ذلك الفضاء الواسع بل نحن نخزنه فيه ونمنعه من الهبوط إلا على المكان الذي نريده، وفي الزمان الذي نشاؤه، وبالقدر الذي خصصناه، ولولا إمساك الله إياه لهبط كما ارتفع، لأن الماء ثقيل ومن طبع الثقيل الهبوط إلى الأسفل، وهذا هو معنى خزنه وادخاره لوقت الحاجة، وهذا من معجزات القرآن العظيم، لأنه يوم نزوله ما كان بشر يعلم أن الرياح تهب حبالى من بخار المياه، وتلد السحاب في جو السماء، وتسقينا من نتاجها الذي تخزنه يد القدرة الإلهية. قال ابن عباس: لواقح للثمر والنبات، فتكون كالفحل. ولم يأت لفظ الرياح في القرآن إلا في الخير، ولا لفظ الريح إلا في الشر حالة الإطلاق، ولكن إذا قيدت تتبع قيدها، قال تعالى (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) الآية ٢٢ من سورة يونس المارة، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال:
اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. وروى البغوي بسنده إلى الشافعي أن ابن عباس رضي الله عنهم قال: ما هبت ريح قط إلا جنى النبي صلّى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها ريحا ولا تجعلها ريحا. وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) الآية ٢٠ من سورة القمر المارة في ج ١، وقال جل قوله (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) الآية ٤٢ من الذاريات الآتية.
وقال عزّ قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية ٥٧ من الأعراف المارة في ج ١، والرياح اللواقح هي ريح الجنوب لما جاء في بعض الأخبار ما هبت رياح الجنوب إلا وانبعت عينا غدقة، وأخرج بن جرير عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّا ثم يبعث المثيرة فتنثر السحاب فيجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فتجعله ركاما، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر.
ولهذا البحث صلة في الآية ١٦ من سورة النور في ج ٣، وقد مرّ له بحث في
الآيات المنوه بها أعلاه. قال تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي» الأجسام القابلة للحياة بإيجاد الحياة فيها «وَنُمِيتُ» من نحييه عند انقضاء أجله المقدر له بإزالة تلك الحياة التي جعلناها فيه فالحياة صفة وجودية تقتضي الحس والحركة الإرادية، والموت زوال تلك الصفات المادية عنها «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ٢٣» لما نخلق، الباقون بعد فناء ما نخلق قاطبة، المالكون للملك الحقيقي عند زوال الملك المجازي الذي هو في قبضتنا أيضا لأنا نحن الحاكمون في الكل أولا وآخرا.
وتفسير الوارث بالباقي نصا على حد قوله صلّى الله عليه وسلم اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا لأن الذهن يصرف معنى الوارث للمتأخر من المتقدم والله تعالى هو الأول والآخر قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ» ولادة وموتا «مِنْكُمْ» أيها المخلوقون «وَلَقَدْ عَلِمْنَا» أيضا «الْمُسْتَأْخِرِينَ به ٢٤» كذلك إلى النهاية من جميع مخلوقاتنا النامية والجامدة، ونعلم أيضا طائعهم وعاصيهم لا يخفى علينا شيء من أمرهم، والآية عامة، فما روي عن حمزة أنها نزلت في القتال قول لا يصح، لأن الجهاد لم يفرض بعد، وكذلك ما قاله الربيع أنس من أن النبي صلّى الله عليه وسلم حرّض على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه، وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد، فقالوا نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل الله هذه الآية، لا يصح أيضا، لأن هذه الآية مكية قولا واحدا، وليس في مكة إذ ذاك إلا الكعبة المشرفة، والمسجد لم يتخذ إلا في المدينة، وكذلك القتال للكفرة لم يؤمر به إلا بالمدينة. هذا وأن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون بالصف الأول لئلا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت أبطيه، فأنزل الله هذه الآية لا يصح أيضا للسبب نفسه، وأن شمولها لما يتعلق بالجهاد وصفوف الصلاة وغيرها بعد نزولها لا يعني أنها سبب للنزول البتة، لأن اللفظ عام ولا يوجد ما يقيده من شيء، ولم يسبق ذكر للجهاد والصلاة، والعبرة دائما لعموم اللفظ إذا كان هناك سبب، فلأن تكون العبرة لعموم اللفظ بلا سبب
من باب أولى، وفي تكرير لفظ (لَقَدْ عَلِمْنَا) دلالة على تأكيد إحاطة علمه تعالى بالعباد وأحوالهم أولا وآخرا، وأن علمه بالأولين كعلمه بالآخرين لأن الكل مدون في لوحه داخل في علمه قبل إبرازه لخلقه. قال تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ» يوم القيامة كلهم على ما ماتوا عليه كما أماتهم على ما عاشوا عليه. ويجازيهم بحسب أعمالهم الدنيوية والأخروية، روى مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعث كل عبد على ما مات عليه. وتوسيط الضمير في الآية يفيد الحصر، أي أن الله تعالى هو وحده يحشرهم، وفي إضافة لفظ الرب إلى الضمير العائد لحضرة الرسول دليل على اللطف به والعطف عليه، وقريء يحشرهم بكسر الشين من الباب السادس والأفصح الفتح على أنه من الباب الأول على ما هو في المصاحف «إِنَّهُ حَكِيمٌ» باهر الحكم بالغ منتهى الإتقان في أفعاله «عَلِيمٌ ٢٥» واسع العلم كثيره يعلم ما يستحقه كل منهم من الثواب والعقاب.
مطلب خلق الإنسان والجان ونشأة الكون وعمران الأرض:
قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام الذي هو أصل الخليقة بدليل قوله «مِنْ صَلْصالٍ» طين يابس تسمع له صوت إذا ضربته كالصلصلة «مِنْ حَمَإٍ» ضارب للسواد وهو صفة الصلصال «مَسْنُونٍ ٢٦» متغير قال تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه الآية ٢٦٠ من البقرة في ج ٣، أي لم يتغير وهو صفة لحمأة، فهذه القيود تعين أن المراد بالإنسان هنا أبو البشر آدم عليه السلام لا مطلق انسان لأنه خلق من الماء المعبر عنه بالنطفة الحاصلة من الزوجين وما قيل إن معناه مصور استدلالا بقول حمزة رضي الله عنه في مدح ابن أخيه محمد صلّى الله عليه وسلم:
أغرّ كأن البدر سنّة وجهه | جلا النعيم عنه ضوءه فتبددا |
تريك سنة وجه غير مقرفة | ملساء ليس بها خال ولا ندب |
قَبْلُ»
خلق آدم «مِنْ نارِ السَّمُومِ» شديد الحرارة تنفذ في المسام، أجارنا الله منها، تؤيد هذه الآية أن الجن كان في الأرض قبل آدم وهو كذلك ولكن لا نعلم مبدأ خلقهم، مما يدل على أن الأرض قديمة قبل آدم بكثير، وقد جاء في الأخبار أنهم لما أفسدوا فيها- كما يدل عليه قوله تعالى (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية ٢٠ من سورة البقرة في ج ٣- قرضهم الله تعالى، ولم يبق منهم إلا إبليس لما كان عليه من العبادة والزهد فيما يبدو للملائكة، فألحقه بهم مع علمه بنتيجة حاله ليقع عليه اللوم. ثم أعلم رعاك الله أن هذه الأرض التي خلق الله أصلنا منها وقضى بعودتنا إليها وإخراجنا منها ثانيا كما مر في الآية ٦٤ من سورة الأعراف الآية ٥٥ من سورة طه المارتين في ج ١ قد مرّ عليها قرون كثيرة وهلك فيها أقوام لا عداد لهم، وقد شاهدت بعيني حالها من صنوف الحياة العجائب المدهشات، ومهما تاق الإنسان لمعرفة عمرها فلا يقدر أن يتوصل إليه، ولا يزال عاجزا مهما بالغ في التنقيب، لذلك لجأ الكلدانيون أولا لتقدير عمرها بحسب التخمين، فقدروه بمليون سنة، ثم ظهر العالم بطبقاتها زور ولستر سنة ١٩٥٠ وقال إن عمرها لا يزيد على سبعة آلاف سنة، وجاء بعده آثر فقال إن عمرها قبل المسيح بأربعة آلاف سنة أي تكون الآن قريبا من ستة آلاف سنة، فانظر إلى هذه المباينة، واعلم أن كل قول فيها مصدره الحدس وهو لا يغني عن الحق شيئا، لأن هذين القولين لا يمكن أن ينطبقا على عمر الأرض بل قد ينطبقان على نشأة آدم عليه السلام فقط، وبعد أن مضى عمر هذين العالمين وضعت على بساط البحث بين الأثريين فقدر علماؤهم أن تحسب المدة اللازمة لترسب سمك خاص من الطبقات الأرضية المنتظمة كالأرض الزراعية، إذ يترسب فيها سنويا مقدار من الغرين بقدر سمك (ميليمتر) واحد، فإذا كان سمك الطبقة مترا فمعنى ذلك أن هذه الطبقة استغرقت على الأقل ألف عام في تكوينها، وقد استخدمت هذه الطريقة في أمريكا الشمالية ولو حظ أن الترسب فيها يقرب من الترسب في أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية فقدروا عمرها على ذلك بعشرين مليونا من السنين، ثم عيب على هذه الطريقة عدم انتظام الترسب واختلاف الحبيبات والبواعث الموجبة
للترسب مما يؤدي إلى خطأ كبير في التقدير، وهو كذلك، ثم انبعثت طريقة أخرى تتوقف على تقدير الأملاح في المحيطات، إذ أن ماء المحيطات بخار كان غلافا للكرة الأرضية أيام انصهارها، فلما بردت تكاثفت تلك الأبخرة وكون ماء المحيطات ولم يكن إذ ذاك ملحا بل أتاه الملح من (الصوديوم) الذي هو مادة الملح، إذ حملته الأنهار من الأرض إلى البحر، فإذا قررت كميّة الملح التي تضاف إلى مياه المحيطات سنويا وقدرت كمية الملح الموجودة فعلا يمكن تقدير عمر الأرض، لأن انتفاء الشرط يؤذن بانتفاء المشروط، وقد تعددت الأبحاث في مختلف بقاع الأرض على طرق اتفقوا عليها فظهر أن عمرها ما بين ثمانين وتسعين مليونا، ثم اكتشف الراديوم سنة ١٩٠٢ فتبين أن هذا العنصر يشع في نفسه باستمرار منتظم من غير تدافع أجزائه وتساقطها نحو المركز، وإن هذه الأجزاء تنحل وتنحول إلى جسم آخر وهو الرصاص، وباستخدام هذه الطريقة قدر عمر الأرض بألف وأربعمائة ألف سنة، ولا زالت الآراء متضاربة، ولا يزال أهلها يحاولون عبثا إدراك مبدأ الكون أي تجمد الأرض، وقال الأستاذ رضوان بن محمد رضوان عند ما تمثل بقوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) الآية ٤ من سورة تبارك الملك الآتية بأن عمر الأرض لا يقل عن مائة مليون سنة، وانتقل إلى تاريخ حياة الأرض مستدلا بما كتبه الدهر على صفحات الصخور، أو في أعماق الأرض من بقايا الكائنات الجية، معترقا بأنه دون الحقيقة بالنظر للحوادث التي تعاقبت فبدلت آثارها، ولمرور مصور كثيرة من غير أن تترك أثرا على سطحها، ثم قال يعتقد الأكثرون أن الأرض كانت كتلة غازية بردت تدريجيّا فتصلّبت ثم أحاط بها نطاق من الهواء تكشف ما به من البخار، فهطلت أمطار عزيرة كونت مياه البحار والمحيطات، ثم بدأت الرياح والأمطار تعمل عملها في تغيير معالم اليابس باستمرار، فكثيرا ما ارتفعت سلاسل جبال شامخات ثم تعود الرياح فتفتتها وتفذفها في البحر، وكانت القارات أعظم اتساعا مما هي
عليه الآن، إذ كانت تمتد شرقا وغربا أكثر منها شمالا وجنوبا أما الآن فقد تبدل الحال إذ أنمار المحيط على جوانبها فأنقصها. وللعلماء في أصل الأرض نظريات فقد وضع العالم الألماني سنة ١٧٥٥
نظريته السديمية فقال إن الكون نشأ من كتلة لا شكل لها، وأن الفضاء كان يشغله سديم (هو تركيب في بعض الأجرام السماوية على شكل سحابة صغيرة) عظيم أي سحابة كبيرة مكون من مواد غازية مرتفعة الحرارة (راجع الآية ٦ من سورة هود المارة حيث سمي هذا السديم عماء وتدبر معناه وقسه مع هذا) ثم انقشعت هذه السحابة تدريجيا بتركيز هذه الغارات بالجاذبية حول نقطة معينة أكثر كثافة من أجزاء السديم، فكانت هذه النقطة فيما بعد النجوم الحارة والشموس المختلفة وتعتبر شمسنا هذه أصغرها حجما، وقد اشتق من هذه النظرية المجملة العالم الأفرنسي لابلاس نظرية في أصل الأرض سنة ١٨٤٢ فقال إن المجموعة الشمسية كانت كتلة غازية مضيئة تشغل فراغا عظيما ثم انكمشت تدريجا بسبب تشعّع حرارتها فتركت حلقات غازية انفصلت عنها الواحدة تلو الأخرى، ثم تركزت كل حلقة منها حول نقطة معيّنة أصبحت فيما بعد كوكبا من الكواكب وبذا تكونت الكواكب الثمانية السيارة التي منها الأرض والسيارات السبع وهي زحل والمشتري والمريخ وعطارد والزهرة والقمر، فكل واحدة من هؤلاء في طبقة أعلى من الأخرى على هذا الترتيب، أدناها الأرض، وأعلاها زحل، كما مر في الآية ١٨ من هذه السورة، قالوا وانفصل منها كذلك ما يقرب من ألف كوكب صغير، فتكون الأرض إذا بحسب هذه النظرية مثلها مثل باقي الكواكب الأخرى بدأت حياتها سحابة غازية ثم بردت وتحولت مادة سائلة فتصلّبت قشرتها الخارجية، وأنها تزداد برودة يوما فيوما وتزداد قشرتها سمكا، وقد بقيت هذه النظرية مقبولة مدة طويلة حتى أن التحقيق العلي والمشاهدات الحسية أقاما البرهان على عدم صحتها، لأن قبولها يقتضي أن تكون حرارة الكرة الأرضية في تناقص مستمر والواقع يخالف هذا إذ تبين أن أقدم أنواع الكائنات التي عاشت على سطح الأرض في الأزمان السحيقة لم تكن تتحمل حرارة أكثر مما تتحمله الأحياء الحالية كما أنه ثبت أن أجزاء من الكرة الأرضية كانت تغطيها الجليد. ولما ظهر بطلان نظرية (لابلاس) السديمية ظهرت نظرية (تشجرلن) المسماة الذرات الكوكبية أو الأرض الباردة، فقال أن الشمس كانت أول أمرها سديما أيضا فدنت من
صفحة رقم 294نجم أكبر منها فحدث من تأثير الجاذبية بينهما أن تفككت الأجزاء الخارجية للشمس واندلعت منها ألسنة نارية حلزونية طويلة مركبة من ذرات معدنية بينها كتل حارة كبيرة، ثم انقشع السديم تدريجبا باجتماع الأجزاء الصغيرة حول الأجزاء الكبيرة بالجاذبية فكانت الكواكب ومنها الأرض، ثم ظهرت نظرية الكوكبيات (لبرل) وهي تشبه النظرية السابقة إلا أن الذرات استبدلت بكوكبات صغيرة لا يزيد قطر الواحدة منها على ٤٨٥ ميلا، فهذه الكوكبيات سقطت على نواة الأرض فنشأ من الاصطدام حرارة فتكونت أرض حارة ذات قشرة منصهرة، وبعد ذلك قل الاصطدام وبدأت الأرض تبرد بالتدريج. ثم اعلم أن كثيرا من العلماء ينسب أصل الجوّ إلى غازات حارة أغلبها بخار الماء ثم قليل من أول وثان أكسيد الكربون وحمض الكلوروديك وبعض الآزوت، أما الأكسجين فلم يكن حرا، ويرجح العلماء أن انطلاق الهواء في الجو يعود إلى عوامل بركانية، أي أن أصل الهواء عبارة عن غازات أو أبخرة لفظتها البراكين والينابيع الحارة من الأعماق البعيدة في باطن الأرض، إذ كانت مكتومة تحت ضغط جبار في المنصهرات الباطنية، فلما خفّ الضغط انطلقت هذه الغازات وملأت الجو وعليه قول القائل:
فبطنها محشوة بالنار | وقشرها قد شق بالبخار |
وبقيت البراكين على حالها في الثوران فتسبب عن إطلاقها المعادن المنصهرة بقوة عظيمة ومقادير هائلة أن غيرت من استواء سطح الأرض فهبطت أجزاء تجمعت فيها المياه فيما بعد وبذا تكونت أحواض المحيطات وأما الأجزاء التي لم تتراكم فوقها الحمم فكونت القارات وعلى هذا فلربما كانت الكائنات المائية هي أولى الكائنات التي ظهرت على وجه البسيطة عند ما تهيأت أسباب الحياة فنشأت في المحيطات أنواع كثيرة من الحيوانات اللافقرية البحرية وقد هاجر بعضها إلى الأنهار وتطورت مع الزمن إلى سمك المياه العذبة ولما كان الجفاف الذي كثيرا ما تتعرض له الأنهار يهدد حياتها بالخطر، لذلك قد أخذت تهيء نفسها للعيش على اليابس فكانت منها الحيوانات الضفدعية وهذه تطورت إلى أنواع أرقى حتى ظهرت الحيوانات الندية ثم خلق الله تبارك وتعالى الإنسان فاستخلفه في الأرض قال تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الآية ٣٠ من البقرة ج ٣. فظهر مما تقدم أن كل ذلك لم يخرج عن الظن والتخمين كما ذكرنا آنفا لأن أهم الوسائل التي يستندون عليها في عمر الدنيا ومبدأ الحياة فيها هو الحفريات وهي عبارة عن العثور على بقايا حيوانات أو نباتات عاشت في الأزمنه الجولوجية القديمة التي لا توجد في الصخور وليس من الضرورة أن تكون هي البقايا الأصلية للكائنات. وعلى الطبقات المترسبة في الأرض وهي تختلف باختلاف الهواء والمكان والزمان كما علمت فلا تدل على حقيقة راهنة وأن ما يوجد من الصور والتماثيل المنقوشة على الصخر لا يمكن أن يعرف منها الزمن بصورة يثق فيها الإنسان إذ لا يوجد تاريخ قبل التوراة بإجماع أهل العلم الحديث والقديم وعليه فان النقوش وحدها وإن أثبتت وجود ناقشيها ومهارتهم فأنها لا تثبت زمانهم والعبرة في معرفة التاريخ للزمن فضلا عن أنهم قالوا لا يوجد من الكائنات الحية التي اندثرت أجسامها إلا نحو واحد بالمائة لأن جسم الحي يتحلل بتأثير الباكتريا والفطر والديدان فيزول من الوجود وإذا لم يكن محنطا لا يتجاوز محق ومحو هيكله الصلب السبعين سنة أما الأعضاء الرخوة التي لا هيكل لها فتندثر بسرعة بحسب مادة الأرض ولا يبقى لها أثر ما وأنسب الأماكن لحفظ الحفريات هي المحيطات والبحار وأصلح الرواسب هي المواد الجيرية
صفحة رقم 296
الموجودة في البحار. هذا بعض ما يقوله أهل العلم الظاهري في نشأة الكون وأنه قد يكون له نصيب من الصحة وقد لا يكون أما العلماء الرومانيون فلا يعتقدون صحتها اعتقادا جازما لأن الأمور التي تستند إلى الدين الحق لا يطبق عليها نظريات فرضت فرضا مصدرها الظن والتقدير والوهم لأنها لا تستند على شيء حقيقي ثابت ولا على دليل قاطع ولذلك يمكن لكل أحد أن يجادل فيها وينكرها أو يحاول على عدم إثباتها، وكذلك القياس فيها منتف إذ لا يقاس على أقوال لم ترتكز على حقيقة واضحة فضلا عن أصحاب هذه الأقوال فإنك لو سألتهم عنها لا يجيبونك عن أنها صحيحة بضمير مطمئن لمضاربة كل نظرية منها الأخرى وتباينها بعضها مع بعض، وعدم إجماع قائليها على مبدأ واحد كما علمت، أما ما جاء من الإشارة إلى مبدأ لكون بالقرآن العظيم وهو قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية ٧٠ من سورة الأنبياء الآتية وما بعدها وشبهها من الآيات الدالة على ذلك وعلى أصل الخلقة إجمالا، وما جاء في الأخبار والأحاديث الواردة عن حضرة الرسول التي ذكرنا قسما منها في الآية ٦ من سورة هود المارة
وأشرنا فيها إلى المواقع الأخرى منها فلا يستطيع أن ينكره إلا من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة.
مطلب أقوال الأجانب في بدء الكون ونهايته وشيء من المخترعات الجديدة ونبذة في الروح:
وانظر ما يقوله العلامة اسحق نيوتن الفلكي الشهير صاحب القوانين المعروف (في صدد حركات الفلك) : المؤكد أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تأتي مع محض الجاذبية لان هذه القوة تدفع الاجرام نحو الشمس فقط وعليه وجب أن توجد قوة إلهية خارقة لتديرها في مداراتها. وإلى ما يقوله اللورد (كلفن) العالم الشهير الطبيعي: (ولا بد أن يكون للأرض مبدأ وسوف يكون لها نهاية، وهناك قوة إلهية تدبر هذا الكون وهو الخالق الأوحد، هذا ولعل المخترعات الحديثة تظهر لنا غير هذا مما يسوق الناس قهرا إلى الاعتراف بالإله الواحد،
وقد بدأت قديما وستتابع إن شاء الله، فقد اخترع الترياق سنة ١٠٠ والسوائل سنة ٤١٠ ودود القز سنة ٥٠٠ وطواحين الماء سنة ٦٠٠ والورق سنة ٧٠٠ واستخراج السكر سنة ٨٠٠ وصناعة الطباعة سنة ٩٣٩ وعلامات الأصوات الموسيقية سنة ١٠٠٠ والمرائي من الزجاج سنة ١٢٠٤ ونظارات العيون سنة ١٢٧٠ والبارود والساعات الدقاقة سنة ١٢٨٠ والإبر المغنطيسية سنة ١٣١٢ وآلة ضفط الهواء سنة ١٣٤٠ وساعات الجيب سنة ١٥٠٠ وميزان الهواء سنة ١٦٤٣ وميزان السوائل سنة ١٦٩٢ وغيرها كثير، وفي عصرنا هذا اخترعت السيارات والطائرات والدبابات والراديو والهاتف واللاسلكي والقنابل والصواريخ والنفاثات والذرة والأقمار الاصطناعية وللركبات الهوائية وغيرها، وما نعلم ماذا يلهم الله تعالى خلقه من المخترعات الأخرى حتى يتم مراده في قوله عز قوله (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) الآية ٢٣ من سورة يونس المارة. أللهم إنا نسألك اللطف فيما جرت فيه المقادير والستر والعافية، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٢٨» تقدم تفسيره في الآية ٢٦ المارة، وما قيل إن مسنون بمعنى مصور أو مصبوب لا قيمة له في هذا المقام، راجع الآية ٢٦ المارة ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى جاءت بمجرى الاخبار، وهذه مخاطب بها حضرة الرسول ليعلمه كيفية بدأ الخلق لأجله، وما نجم عن مخالفة بعض مخلوقاته لأمره والثالثة الآتية حكاية عن قول إبليس يبين فيها بماذا قابل ربه تجاه إنعامه عليه، تدبر.
«فَإِذا سَوَّيْتُهُ» عدلته وأتممت خلقه على ما هو في سبق علمي الأزلي «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» وهذا معنى قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الآية ٦٠ من آل عمران في ج ٣، والنفخ في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، والمراد هنا والله أعلم تمثيل إفاضة مادية الحياة بالفعل على المادة المقابلة لها، وليس هناك نفخ حقيقية بالمعنى الذي نعرفه، وهذا الروح هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه، ولا متصل