آيات من القرآن الكريم

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ

فقلت له لا تبك عينك إما نُحاولُ مُلْكًا أَوْ نَموتَ فَنُعْذرا
فنصب آخره ورفع (نُحاول) عَلَى معنى إِلا أو حَتَّى. وَفِي إحدى القراءتين: (تُقَاتِلُونَهُمْ «١» أَوْ يُسْلِمُوا) والمعنى- والله أعلم- تقاتلونَهم حَتَّى يُسلموا. وقال الشاعر «٢» :
لا أستطيعُ نُزوعًا عَن مودّتها أَوْ يصنعَ الحبُّ بي غير الَّذِي صَنَعا
وأنت قائل فِي الكلام: لست لأبي إن لَمْ أقتلك أو تسبقَْني فِي الأرض فتنصب (تسبقني) وتجزمها. كأنّ الجزم فِي جوازه: لستُ لأبي إن لَمْ يَكن أحدُ هذين، والنصبُ عَلَى أنّ آخره منقطع عَن أوله كما قالوا: لا يسعُني شيء ويَضيقَ عنك، فلم يَصْلُح أن تردّ (لا) عَلَى (ويضيق) فعلم أنها منقطعة من معناها. كذلك قولُ العرب: لو تُرِكْتَ وَالأسَدَ لأكلك لَمَّا جاءت الواو ترُدُّ اسمًا عَلَى اسم قبله، وقبح أن تردّ الفعل الَّذِي رَفَع الأوّل عَلَى الثاني نصب ألا ترى أنك لا تَقُولُ لو تُركت وتُرك الأسدُ لأكلك. فمِن هاهنا أتاهُ النصب. وجاز الرفع لأن الواو حرف نَسَق معروف فجاز فِيهِ الوجهان للعلتين.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي [١٤] معناهُ: ذَلِكَ لمن خاف مقامه بين يَدَيّ ومثله قوله:
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «٣» ) معناهُ: رزقي إِيَّاكُم أنكم تكذِّبُون والعرب تُضيف أفعالها إلى أنفسها وإلى ما أوقعت عَلَيْهِ، فيقولون: قد ندمت عَلَى ضربي إيّاك وندمت عَلَى ضربك فهذا من ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.
وقوله: وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [١٧] فهو يُسيغه. والعربُ قد تجعل (لا يَكادُ) فيما قد فُعل وفيما لَمْ يُفعل. فأمَّا ما قد فُعِل فهو بَيّن هنا من ذَلِكَ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول لَمَّا جعله لهم طعاما
(١) الآية ١٦ سورة الفتح. وهذه القراءة فى قراءة أبى وزيد بن على كما فى البحر ٨/ ٩٤. وهى من القراءات الشاذة.
(٢) هو الأحوص.
(٣) الآية ٨٢ سورة الواقعة.

صفحة رقم 71

(إِنَّ «١» شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) فهذا أيضًا عذاب فِي بطونِهم يُسيغونه. وأَمَّا ما دخلت فِيهِ (كاد) ولم يفعل فقولك فِي الكلام: ما أتيته ولا كدِتُ، وقول الله عَزَّ وَجَلَّ فِي النور (إِذا «٢» أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فهذا عندنا- والله أعلم- أَنَّهُ لا يراها. وقد قَالَ ذَلِكَ بعضُ الفقهاء لأنَّها لا تُرى فيما هُوَ دون هَذَا من الظلمات، وكيفَ بِظلمات قد وُصفت بأشدّ الوصف.
وقوله: ويأتيه الموت من كلّ مكان: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ: قَالَ: حَدَّثَنِي حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (يأتيه الموت) يَعْنِي: يَأْتِيهِ الْعَذَابُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ. حَدَّثَنِي هشيم عَن العوام بن حوشب عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ قَالَ: من كل شَعَرة.
وقوله: (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) العربُ إذا كَانَ الشيء قد مات قالوا: ميْت وميِّت. فإن قالوا:
هُوَ ميت إن ضربته قالوا: مائت وميّت. وقد قرأ بعضُ القراء (إِنَّكَ «٣» مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُون) وقراءة العوام عَلَى (ميّت). وكذلك يقولون هَذَا سيّد قومه وما هُوَ بسائدهم عَن قليل، فيقولون:
بسائدهم وسيّدهم، وكذلك يفعلونَ فِي كل نعت مثل طمع، يقال: طَمِعٌ إذا وُصف بالطمع، ويُقال هُوَ طامع أن «٤» يُصيب منك خيرًا، ويقولون: هُوَ سكران إذا كَانَ فِي سكره، وما هُوَ ساكر عَن كثرة الشراب، وهو كريم إذا كَانَ موصوفًا بالكرم، فإن نويت كَرَمًا يكون منه فيما يُستقبل قلت: كارم.
وقوله: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [١٨].
أضافَ الْمَثَلَ إليهم ثُمَّ قَالَ (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) والمثل للأعمال والعرب تفعل

(١) الآيات ٤٣- ٤٥ سورة الدخان
(٢) الآية ٤٠ سورة النور
(٣) فى الآية ٣٠ سورة الزمر. وهذه القراءة قراءة الحسن وابن محيصن، كما فى الإتحاف [.....]
(٤) ا: «إذ»

صفحة رقم 72

ذَلِكَ: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ (وَيَوْمَ «١» الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) والمعنى تَرَى وجوهَهم مسودّة. وَذَلِكَ عربيّ لأنَّهم يَجدونَ المعنى فِي آخر الكلمة فلا يبالونَ ما وقع عَلَى الاسم المبتدأ. وَفِيهِ أن تكرَّ ما وقع عَلَى الاسم المبتدأ عَلَى الثاني كقوله (لَجَعَلْنا لِمَنْ «٢» يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) فأعِيدَت اللام فِي البيوت لأنَّها التي تُرادُ بالسقف ولو خفضت ولم تظهر اللام كَانَ صوابا كما قال الله عز وجل (يَسْئَلُونَكَ «٣» عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ).
فلو خفض قارئ الأعمال فقال (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) كَانَ جائزًا ولم أسمعه في القراءة. وقد أنشدني بعضهم:

ما للجمَالِ مَشْيِهَا وئيدًا أجندلًا يحملن أَمْ حديدًا «٤»
أرادَ ما للجمال ما لمشيها وئيدًا. وقال الآخر «٥» :
ذرِيني إِن أمركِ لن يُطاعا وما ألفيتني حِلْمِي مُضَاعَا
فالحلمُ منصوبٌ بالإلقاء عَلَى التكرير ولو رفعته كَانَ صَوَابًا.
وقال (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) فجعل العصوف تابعًا لليوم فِي إعرابه، وإنَّما العصُوف للريح. وَذَلِكَ جائز عَلَى جهتين، إحداهما أن العصوفَ وإن كَانَ للريح فإن اليوم يوصف بِهِ لأن الريح فِيهِ تكون، فجاز أن تَقُولَ يوم عاصف كما تَقُولُ: يوم بارد ويوم حار. وقد أنشدني بعضهم:
يومين غيمين ويوما شمسا
(١) الآية ٦٠ سورة الزمر
(٢) الآية ٣٣ سورة الزخرف
(٣) الآية ٢١٧ سورة البقرة
(٤) من رجز للزباء فى قصة لها. ووئيدا: له صوت شديد يريد شدة وطئها الأرض من ثقل ما تحمله فيسمع لوقعها صوت. وانظر شواهد العيني على هامش الخزانة ٢/ ٤٤٨.
(٥) هو عدى بن زيد العبادي، كما فى شواهد العيني فى البدل.

صفحة رقم 73

فوصف اليومين بالغيمين وإنَّما يكون الغيم فيهما. والوجه الآخر أن يريد فِي يوم عَاصِفِ الريحِ فتحذف الريح لأنَّها قد ذكرت فِي أوّل الكلمة كما قَالَ الشاعر:

فيضحكُ عرفانَ الدروع جلودُنا إذا جاء يوم مظلمُ الشمس كاسفُ
يريد كاسف الشمس فهذان وجهان. وإن نويت أن تجعل (عاصف) من نعت الريح خاصَّة فلما جاء بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وَذَلِكَ من كلام العرب أن يُتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه.
قَالَ الشاعر:
كأَنَّما ضربت قدّام أعينِها قُطْنا بِمستحصِد الأوتارِ محلوج «١»
وقال الآخر «٢» :
تريكَ سُنَّة وجه غيرِ مُقرفَةٍ مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خال وَلَا نَدَبُ
قَالَ: سمعتُ الفراء قَالَ: قلت لأبي ثَرْوان وقد أنشدني هَذَا البيت بِخفض: كيف تَقُولُ: تريكَ سُنَّة وجه غير مقرفة؟ قَالَ: تريكَ سنّة وجه غَيْرَ مقرفة. قلت لَهُ: فأنشد فخفض (غير) فأعدتُ القول عَلَيْهِ فقال: الَّذِي تَقُولُ أنت أجود مِمّا أقول أنا وَكَانَ إنشاده عَلَى الخفض. وقال آخر «٣» :
وإيَّاكم وَحَيَّةَ بطنِ وادٍ هَمُوزِ النابِ ليسَ لكم بِسِيّ
وَمِمَّا يرويه نحويُّونا الأوَّلون أن العرب تَقُولُ: هَذَا جُحْرُ ضَبّ خَرِبٍ. والوجهُ أن يقول:
سُنَّةَ وجه غيْرَ مقرفة، وحَيَّةَ بطنِ واد هَموزَ النابِ، وهذا جُحْرٍ ضبّ خربٌ. وقد ذكر عن
(١) أراد بمستحصد الأوتار مندفا متينا. وقوله: «محلوج» من صفة (قطنا) وكان حقه النصب، ولكنه جره على المجاورة.
(٢) هو ذو الرمة فى بائيته المشهورة. والسنة: الصورة. والمقرفة. التي دنت من الهجنة، وهو عيب. والندب الأثر من الجراح. وانظر الديوان ٤
(٣) هو الحطيئة كما فى اللسان (سوا) والهمز: العض. وسى: مساو وانظر الخصائص ٣ هما ٢٢

صفحة رقم 74
معاني القرآن للفراء
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الفراء
تحقيق
أحمد يوسف نجاتي
الناشر
دار المصرية للتأليف والترجمة - مصر
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
ألفاظ القرآن
اللغة
العربية