
الْفَلَكِيَّةِ وَطَبْعَهُ وَوَضْعَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْمُقَدِّرِ الْقَدِيمِ/ وَالْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ، فَقَدْ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ وَهَذَا الْجَوَابُ قَدْ قَرَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا كَيْفَ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَهَا بِالدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْأَرْضِيَّةُ لِأَجْلِ الْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، كَانَ جَوَابُنَا أَنْ نَقُولَ فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا دَلَّلَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى افْتِقَارِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ إِلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا السُّؤَالُ قَادِحًا فِي غَرَضِنَا.
وَالوجه الثَّانِي: مِنَ الْجَوَابِ أَنْ نُقِيمَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ لِأَجْلِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ اللَّطَائِفِ وَوَقَفَ عَلَيْهَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ اشْتَمَلَ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِأَجْلِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَالْحَرَكَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ وَهِيَ مع ذلك متجاورة، فبعضها تكون سبخية، وَبَعْضُهَا تَكُونُ رِخْوَةً، وَبَعْضُهَا تَكُونُ صُلْبَةً، وَبَعْضُهَا تَكُونُ مُنْبِتَةً، وَبَعْضُهَا تَكُونُ حَجَرِيَّةً أَوْ رَمْلِيَّةً وَبَعْضُهَا يَكُونُ طِينًا لَزِجًا، ثُمَّ إِنَّهَا مُتَجَاوِرَةٌ وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ فِي تِلْكَ الْقِطَعِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهَا فِي صِفَاتِهَا بِتَقْدِيرِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِطْعَةَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْأَرْضِ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ تَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِيهَا مُتَسَاوِيًا، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الثِّمَارَ تَجِيءُ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ حَتَّى إِنَّكَ قَدْ تَأْخُذُ عُنْقُودًا مِنَ الْعِنَبِ فَيَكُونُ جَمِيعُ حَبَّاتِهِ حُلْوَةً نَضِيجَةً إِلَّا حَبَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهَا بَقِيَتْ حَامِضَةً يَابِسَةً، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ/ الطِّبَاعِ وَالْأَفْلَاكِ لِلْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ، بَلْ نَقُولُ: هَاهُنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْوَرْدِ مَا يَكُونُ أَحَدُ وَجْهَيْهِ فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي فِي غَايَةِ السَّوَادِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَرْدَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ وَالنُّعُومَةِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: وَصَلَ تَأْثِيرُ الشَّمْسِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الثَّانِي، وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا بِسَبَبِ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَتَفْسِيرِهَا وَبَيَانِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ بِذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ قَدْ تَمَّتِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ السُّفْلِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُؤَثِّرٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ هُوَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَفْلَاكَ وَالطَّبَائِعَ فَعِنْدَ هَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ آخَرَ سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعِنْدَهَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ لِلْفِكْرِ مَقَامٌ الْبَتَّةَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ السُّفْلِيَّةَ حَدَثَتْ لَا لِمُؤَثِّرٍ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِافْتِقَارِ الْحَادِثِ إِلَى الْمُحْدِثِ لَمَّا كَانَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا كَانَ عَدَمُ حُصُولِ هَذَا الْعِلْمِ قَادِحًا فِي كَمَالِ الْعَقْلِ فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد: ٣] فَهَذِهِ اللَّطَائِفُ نَفِيسَةٌ مِنْ أَسْرَارِ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَرْضٌ قَرِيبَةٌ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَاحِدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَأُخْرَى سَبَخَةٌ، وَأُخْرَى حَرَّةٌ، وَأُخْرَى رَمْلَةٌ، وَأُخْرَى تَكُونُ حَصْبَاءَ، وَأُخْرَى تَكُونُ حَمْرَاءَ، وَأُخْرَى تَكُونُ سَوْدَاءَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاخْتِلَافُ بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ وَالطِّبَاعِ وَالْخَاصِّيَّةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ، وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ (قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ) وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ. وَأما قوله: وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ فَنَقُولُ: الْجَنَّةُ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ وَالزَّرْعُ وَتَحُفُّهُ تِلْكَ الْأَشْجَارُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً [الْكَهْفِ: ٣٢] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ كُلُّهَا بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ (وَجَنَّاتٌ) وَالْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْأَعْنَابِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ الْقَوَّاسِ:
(صُنْوَانٍ) بِضَمِّ الصَّادِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالصِّنْوَانُ جَمْعُ صِنْوٍ مِثْلُ قِنْوَانٍ وَقِنْوٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَصْنَاءٍ مِثْلَ اسْمٍ وَأَسْمَاءٍ. فَإِذَا كَثُرَتْ فَهُوَ الصِّنِيُّ، وَالصِّنِيُّ بِكَسْرِ الصَّادِ وَفَتْحِهَا، وَالصِّنْوُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ وَاحِدًا وَتَنْبُتَ فِيهِ النَّخْلَتَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَأَكْثَرُ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ صِنْوٌ. وَذَكَرَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: / الصِّنْوُ الْمِثْلُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ»
أَيْ مِثْلُهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا فَسَّرْنَا الصِّنْوَ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّ النَّخِيلَ مِنْهَا مَا يَنْبُتُ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ شَجَرَتَانِ وَأَكْثَرُ وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِذَا فَسَّرْنَاهُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ أَشْجَارَ النَّخِيلِ قَدْ تَكُونُ مُتَمَاثِلَةً مُتَشَابِهَةً، وَقَدْ لَا تَكُونُ كذلك.
ثم قال تعالى: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ قَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ (يُسْقى) بِالْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ يُسْقَى كُلُّهُ أَوْ لِتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ: (جَنَّاتٌ) قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِلتَّأْنِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُفَضِّلُ) بِالْيَاءِ عَطْفًا عَلَى قوله: يُدَبِّرُ [الرعد: ٢]، ويفضل [الرعد: ٢]، ويُغْشِي [الرعد: ٣]، والباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل، وفِي الْأُكُلِ قَوْلَانِ: حَكَاهُمَا الْوَاحِدِيُّ حَكَى عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْأُكُلَ الثَّمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَحَكَى عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْأُكُلَ الْمُهَيَّأُ لِلْأَكْلِ، وَأَقُولُ هَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: ٣٥] وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وابن كثير ونافع يقرآن الْأُكْلِ سَاكِنَةَ الْكَافِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بضم الكاف وهما لغتان.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَسْأَلَةَ الْمَعَادِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ تَعْجَبْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ بَعْدَ مَا كَانُوا قَدْ حَكَمُوا عَلَيْكَ أَنَّكَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَهَذَا عَجَبٌ. وَالثَّانِي: إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نفعاً ولا ضرًا بعد ما عَرَفُوا الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَهَذَا عَجَبٌ. وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ عَجِبْتَ فِي مَوْضِعِ الْعَجَبِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات وَالْأَرْضِ/ وَخَالِقُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ فِي الْعَالَمِ أَنْوَاعَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، فَمَنْ كَانَتْ قُدْرَتُهُ وَافِيَةً بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ كَيْفَ لَا تَكُونُ وَافِيَةً بِإِعَادَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَقْوَى الْأَكْمَلِ فَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَقَلِّ الْأَضْعَفِ أَوْلَى، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذَا الْكَلَامَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّمَا لَزِمَ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ الْكُفْرُ بِرَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِنْكَارِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ أَمَّا إِنْكَارُ الْقُدْرَةِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَا فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَادَةِ. أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا لَكِنَّهُ لَيْسَ تَامَّ الْقُدْرَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُ إِيجَادُ الْحَيَوَانِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبَوَيْنِ وَتَأْثِيرَاتِ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْعِلْمِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يمكنه هَذَا الْمُطِيعِ عَنِ الْعَاصِي وَأَمَّا إِنْكَارُ الصِّدْقِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْهُ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِأَنَّ الْكَذِبَ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرًا ثَبَتَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ كُفْرٌ بِاللَّهِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ بِالْأَغْلَالِ: كُفْرُهُمْ وَذِلَّتُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ لِلْأَصْنَامِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: ٨] قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: هَذَا غُلٌّ فِي عُنُقِكَ لِلْعَمَلِ الرَّدِيءِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَازِمٌ لَكَ وَأَنَّكَ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ نُصْرَةُ قَوْلِ الْأَصَمِّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ فِي الْحَالِ وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ وَأَنْتُمْ تَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلَى أَنَّهُ سَيَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَغْلَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا تَارِكٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلِمَ كَانَ قَوْلُكُمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غَافِرٍ: ٧١، ٧٢].
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ بِالْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ الْمُؤَبَّدِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الْمُخَلَّدَ لَيْسَ إِلَّا لِلْكُفَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا قَوْلُهُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْخُلُودِ لَا غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ/ الْكَبَائِرِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ.