آيات من القرآن الكريم

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ

«إنى رأيت الجنة- أو أريت الجنة- فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا».
وروى الطبراني عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى». «١»
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت من التوجيهات ما فيه التسلية للرسول ﷺ عما أصابه من قومه، وما فيه أوضح الدلائل والبراهين وأبلغها عن وحدانية الله- تعالى- ووجوب إفراده بالعبادة، وما فيه البشارة للمؤمنين، والتهديد للكافرين.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان موقف أهل الكتاب من القرآن الكريم، وبأمر الرسول ﷺ أن يعلن منهجه بصراحة وثبات، دون التفات إلى أهواء معارضيه، وبالرد على الشبهات التي أثارها أعداؤه حوله وحول دعوته، وبتهديد هؤلاء الأعداء وبسوء العاقبة إذا ما استمروا في طغيانهم فقال- تعالى-:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٨٦.

صفحة رقم 490

وقوله- سبحانه-: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ثناء منه- سبحانه- على الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب فاتبعوه.
والمراد بالكتاب هنا: التوراة والإنجيل.
والمعنى: والذين أعطيناهم التوراة والإنجيل، فآمنوا بما فيهما من بشارات تتعلق بك- أيها الرسول الكريم-، ثم آمنوا بك عند إرسالك رحمة للعالمين.
هؤلاء الذين تلك صفاتهم، يفرحون بما أنزل إليك من قرآن، لأن ما فيه من هدايات وبراهين على صدقك، يزيدهم إيمانا على إيمانهم، ويقينا على يقينهم.
وقيل: المراد بالكتاب القرآن الكريم، وبالموصول أتباع النبي ﷺ من المسلمين.
فيكون المعنى: والذين آتيناهم الكتاب- وهو القرآن- فآمنوا بك وصدقوك يفرحون بكل ما ينزل عليك منه، لأنه يزيدهم هداية على هدايتهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأن الآية الكريمة سيقت بعد الحديث عن عاقبة الذين اتقوا وهم المؤمنون الصادقون، وعاقبة الكافرين. ولأن فرح المؤمنين بنزول القرآن أمر مسلم به فلا يحتاج إلى الحديث عنه.
ومن المفسرين الذين اقتصروا في تفسيرهم للآية على الرأى الأول الإمام ابن كثير فقد قال: يقول الله- تعالى-: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم قائمون بمقتضاه يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أى: من القرآن، لما في كتبهم من الشواهد على صدقه ﷺ والبشارة

صفحة رقم 491

به، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «١».
وقوله: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ بيان لمن بقي على كفره من أهل الكتاب وغيرهم. والأحزاب: جمع حزب ويطلق على مجموعة من الناس اجتمعوا من أجل غاية معينة أى:

ومن أحزاب الكفر والضلال من ينكر بعض ما أنزل إليك لأنه يخالف أهواءهم وأطماعهم وشهواتهم ولم يذكر القرآن هذا البعض الذي ينكرونه، إهمالا لشأنهم، ولأنه لا يتعلق بذكره غرض.
وقوله- سبحانه-: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ أمر منه- تعالى- لنبيه ﷺ بأن يصدع بما يأمره دون تردد أو وجل.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لكل من خالفك فيما تدعو إليه «إنما أمرت أن أعبد الله» وحده «ولا أشرك به» بوجه من الوجوه إليه وحده «أدعو» الناس لكي يخلصوا له العبادة والطاعة «وإليه مآب» أى وإليه وحده إيابى ومرجعي لا إلى أحد غيره.
فالآية تضمنت المدح لمن عرف الحق ففرح بوجوده. والذم لمن أنكره جحودا وعنادا، والأمر للنبي ﷺ بالسير في طريقه بدون خشية من أحد.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك بعض الفضائل التي امتاز بها القرآن الكريم فقال- تعالى-: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا....
والكاف للتشبيه، واسم الإشارة يعود إلى الإنزال المأخوذ من أَنْزَلْناهُ وضمير الغائب في أنزلناه يعود الى بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في قوله في الآية السابقة يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ...
وقوله حُكْماً عَرَبِيًّا حالان من ضمير الغائب.
والمعنى: ومثل ذلك الإنزال البديع الجامع لألوان الهداية والإعجاز، أنزلنا عليك القرآن يا محمد حُكْماً أى: حاكما بين الناس عَرَبِيًّا أى: بلسان عربي مبين هو لسانك ولسان قومك.
ومنهم من يرى أن اسم الإشارة يعود إلى الكتب السماوية السابقة، فيكون المعنى:
وكما أنزلنا الكتب السماوية على بعض رسلنا بلغاتهم وبلغات أقوامهم أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلغتك وبلغة قومك، وهي اللغة العربية ليسهل عليهم فهمه وحفظه.
وعلى كلا القولين فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد اشتملت على فضيلتين للقرآن
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٧٧.

صفحة رقم 492

الكريم: فضيلة من جهة معانيه ومقاصده وهداياته وحكمه وأحكامه وتشريعاته، وهو المعبر عنها بكونه «حكما».
وفضيلة من جهة ألفاظه ومفرداته وتراكيبه، وهي المعبر عنها بكونه «عربيا».
أى: نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأغناها وأجملها.
ثم في كونه «عربيا» امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء، حيث إنه نزل بلغتهم، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوه بالفرح والتسليم لأوامره ونواهيه، فهو الكتاب الذي فيه شرفهم وعزهم، قال- تعالى-: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أى: فيه بقاء شرفكم أَفَلا تَعْقِلُونَ «١».
وقال- تعالى-: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ «٢».
وفي ذلك تعريض بغباء مشركي العرب، حيث لم يشكروا الله- تعالى- على هذه النعمة، بل قابلوا من أنزل عليه هذا القرآن بالعناد والعصيان.
ثم ساق- سبحانه- تحذيرا للأمة كلها في شخص نبيها ﷺ من اتباع أهواء كل كافر أو فاسق: فقال- تعالى-: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ.
واللام في قوله وَلَئِنِ موطئة للقسم لتأكيد ما تضمنته من عقاب شديد لمتبع أهواء الكافرين.
والأهواء: جمع هوى، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق، ومطالبهم المتعنتة، والمراد بما جاءه من العلم: ما بلغه وعلمه من الدين عن طريق الوحى الصادق.
والولي: الناصر والمعين والقريب والحليف. والواقي: المدافع عن غيره.
والمعنى: «ولئن اتبعت» - يا محمد- على سبيل الفرض والتقدير أهواء هؤلاء الكافرين فيما يطلبونه منك، «من بعد ما جاءك من العلم» اليقيني بأن الإسلام هو الدين الحق، «مالك من الله» أى من عقباه «من ولى» يلي أمرك وينصرك «ولا واق» يقيك من حسابه. وسيق هذا التحذير في صورة الخطاب للرسول ﷺ للتأكيد من مضمونه.
فكأنه- سبحانه يقول: لو اتبع أهواءهم- على سبيل الفرض- أكرم الناس عندي لعاقبته، وأحق بهذا العقاب من كان دونه في الفضل والمنزلة، وشبيه بهذه الآية قوله

(١) سورة الأنبياء الآية ١٠.
(٢) سورة الزخرف الآية ٤٤.

صفحة رقم 493

- تعالى-: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «١».
ثم بين- سبحانه- أن اعتراض المشركين على بشرية الرسول ﷺ ليس إلا من قبيل التعنت والجحود، لأن الرسل جميعا كانوا من البشر، فقال- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً....
أى: «ولقد أرسلنا رسلا» كثيرين «من قبلك» يا محمد «وجعلنا لهم» أى لهؤلاء الرسل «أزواجا» يسكنون إليهن «وذرية» أى: وأولادا تقرّ بهم أعينهم.
قال الشوكانى: «وفي هذا رد على من كان ينكر على رسول الله ﷺ تزوجه بالنساء.
أى: هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه»
«٢».
وقوله- سبحانه-:

وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ رد على ما طلبوه منه ﷺ من معجزات.
أى: وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى لمن أرسل إليهم بمعجزة كائنة ما كانت إلا بإذن الله وإرادته المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات.
وقوله- سبحانه- لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ تهديد للمشركين الذين كانوا يتعجلون حصول المقترحات التي طلبوها منه صلى الله عليه وسلم.
أى: لكل وقت من الأوقات «كتاب» أى: حكم معين يكتب على الناس حسبما تقتضيه مشيئته- سبحانه-.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته، وسعة علمه، وعظيم حكمته فقال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
وقوله: يَمْحُوا من المحو وهو إذهاب أثر الشيء بعد وجوده.
وقوله: وَيُثْبِتُ من الإثبات وهو جعل الشيء ثابتا قارا في مكان ما.
وأم الكتاب: أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب: اللوح المحفوظ، أو علمه- سبحانه- المحيط بكل شيء.
قال الفخر الرازي: «والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشيء أمّا له ومنه أمّ
(١) سورة الزمر الآية ٦٥.
(٢) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٨٨.

صفحة رقم 494

الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب» «١».
والمعنى: يمحو الله- تعالى- ما يشاء محوه، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة، ومن الصحة أو المرض، ومن الغنى أو الفقر، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه.
وعنده- سبحانه- الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون.
قال- تعالى-: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ... «٢».
وقال- تعالى-: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ «٣».
وللمفسرين في معنى هذه الآية كلام طويل، لخصه الإمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال:
قوله- سبحانه-: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه، وظاهر النظم القرآنى العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر... ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم.
وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة. وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل «يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه... والأول أولى كما تفيده «ما» في قوله «ما يشاء» من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله «لكل أجل كتاب» ومع قوله «وعنده أم الكتاب» أى أصله وهو اللوح المحفوظ.
فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته.
وهذا لا ينافي ما ثبت عنه ﷺ من قوله «جفّ القلم»، وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه- سبحانه-.
وقيل: إن أم الكتاب هو علم الله- تعالى-: بما خلق وبما هو خالق «٤».

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٦٦. [.....]
(٢) سورة الحديد الآية ٢٢.
(٣) سورة الحج الآية ٧٠.
(٤) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٨٨.

صفحة رقم 495

وقوله- سبحانه- وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ حض له ﷺ على المضي في دعوته بدون تسويف أو تأجيل.
و «ما» في قوله «وإما نرينك» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، والأصل: وإن نرك، والإراءة هنا بصرية، والكاف مفعول أول، وبعض الذي نعدهم: مفعول ثان، وجواب الشرط، محذوف.
والمعنى: وإما نرينك- يا محمد- بعض الذي توعدنا به أعداءك من العذاب الدنيوي، فذاك شفاء لصدرك وصدور أتباعك.
وقوله «أو نتوفينك» شرط آخر لعطفه على الشرط السابق، وجوابه- أيضا- محذوف والتقدير: أو نتوفينك قبل ذلك فلا تهتم، واترك الأمر لنا.
وقوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ تعليل لهذا الجواب المحذوف، أى: سواء أرأيت عذابهم أم لم تره، فإنما عليك فقط تبليغ ما أمرناك بتبليغه للناس.
وَعَلَيْنَا وحدنا الْحِسابُ أى: محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم السيئة.
وقوله- سبحانه-: بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ للإشارة إلى أن ما يصيبهم من عذاب دنيوى هو بعض العذاب المعد لهم، أما البعض الآخر وهو عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.
ولقد صدق الله- تعالى- وعده لنبيه ﷺ فأراه قبل أن يفارق هذه الدنيا، جانبا من العذاب الذي أنزله بأعدائه، فسلط على مشركي مكة الجدب والقحط الذي جعلهم يأكلون العظام والميتة والجلود.
كما سلط عليهم المؤمنين فهزموهم في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وفي غيرهما. ثم وبخ- سبحانه- المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم، فقال- تعالى-:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها....
والهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والخطاب لمشركي مكة ومن كان على شاكلتهم في الكفر والضلال.
والمراد بالأرض هنا: أرض الكفرة والظالمين.
والأطراف جمع طرف وهو جانب الشيء.
والمعنى: أعمى هؤلاء الكافرون عن التفكير والاعتبار، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة، قد أتت على الأمم القوية الغنية- حين كفرت بنعمه- سبحانه-، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا، وعزها ذلا، وأمنها خوفا... وحصرتها في رقعة ضيقة من الأرض، بعد أن

صفحة رقم 496

كانت تملك الأراضي الفسيحة، والأماكن المترامية الأطراف.
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين، وإنذار للكافرين.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ «١».
قال الآلوسى ما ملخصه: «وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض: موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء، وشاهده قول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم، إذا وردت منى... أطراف كل قبيلة، من يتبع؟
يريد أشراف كل قبيلة.
وتقرير الآية عليه: أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة، وموتا بعد حياة، وذلا بعد عز... فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله- تعالى- الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة...
ثم قال: وهو كما ترى:
والأول- وهو أن يكون المراد بالأرض: أرض الكفر، وبالأطراف الجوانب- أوفق بالمقام، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة، وجملة «ننقصها»
في موضع الحال من فاعل نأتى... » «٢».
وقوله- سبحانه-: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ بيان لعلو شأن حكمه- تعالى- ونفاذ أمره.
والمعقب: هو الذي يتعقب فعل غيره أو قوله فيبطله أو يصححه.
أى: والله- تعالى- يحكم ما يشاء أن يحكم به في خلقه، لا راد لحكمه، ولا دافع لقضائه، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل، وقد حكم- سبحانه- بعزة الإسلام، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان...
وقوله وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ أى: وهو- سبحانه- سريع المحاسبة والمجازاة، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإحصاء والعد، إذ هو- سبحانه- محيط بكل شيء، فلا تستبطئ. عقابهم- أيها الرسول الكريم- فإن ما وعدناك به واقع لا محالة.

(١) سورة الأنبياء الآية ٤٤.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٥٥.

صفحة رقم 497

ثم زاد- سبحانه- في تسلية رسوله ﷺ وفي تثبيت فؤاده فقال: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً....
والمكر: صرف الغير عما يريده بحيلة، أو إيصال المكروه للممكور به خفية، والمراد بمكر الذين من قبلهم: إضمارهم السوء لرسلهم.
والمراد بمكر الله- تعالى- هنا: علمه- سبحانه- بما بيتوه، وإحباطه لمكرهم، وإنجاؤه لرسله- عليهم الصلاة والسلام-.
أى: وقد مكر الكفار الذين سبقوا قومك- يا محمد- برسلهم وحاولوا إيقاع المكروه بهم، ولكن ربك- سبحانه- نصر رسله لأنه- عز وجل- له المكر جميعا، ولا اعتداد بمكر غيره لأنه معلوم له.
وقال الجمل ما ملخصه: «وقوله فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً تعليل لمحذوف تقديره فلا عبرة بمكرهم، ولا تأثير له، فحذف هذا اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله بقوله فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أى: لا تأثير لمكرهم أصلا لأنه معلوم لله- تعالى- وتحت قدرته...
وأثبت لهم المكر باعتبار الكسب، ونفاه عنهم باعتبار الخلق. «١»

وجملة «يعلم ما تكسب كل نفس» بمنزلة التعليل لجملة «فلله المكر جميعا».
أى: هو- سبحانه- له المكر جميعا، لأنه لا تخفى عليه خافية من أحوال كل نفس، وسيجازيها بما تستحقه من خير أو شر.
وقوله: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ تهديد للكافرين بالحق الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى: وسيعلم الكافرون عند ما ينزل بهم العذاب، لمن تكون العاقبة الحميدة أهي لهم- كما يزعمون- أم للمؤمنين؟ لا شك أنها للمؤمنين.
فالجملة الكريمة تحذير للكافرين من التمادي في كفرهم، وتبشير للمؤمنين بأن العاقبة لهم.
وفي قراءة سبعية «وسيعلم الكافر». فيكون المراد به جنس الكافر.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالشهادة للرسول ﷺ بأنه صادق في رسالته فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا.
أى: لست مرسلا من عند الله- تعالى-، وقد حكى- سبحانه- قولهم الباطل هذا

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥١٢.

صفحة رقم 498

بصيغة الفعل المضارع، للإشارة إلى تكرار هذا القول منهم، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود.
وقوله قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أمر من الله- تعالى- لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم.
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كَفى في المعنى، مزيدة للتأكيد، وقوله وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ معطوف على اسم الجلالة، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس.
والمعنى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- تكفى شهادة الله بيني وبينكم، فهو يعلم صدق دعوتي، ويعلم كذبكم، ويعلم ذلك- أيضا- كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتي، وجاءت أوصافى فيها...
وممن شهد لي بالنبوة ورقة بن نوفل، فأنتم تعلمون أنه قال لي عند ما أخبرته بما حدث لي في غار حراء: «هذا هو الناموس- أى الوحى- الذي أنزله الله على موسى»...
وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب: المسلمون. وبالكتاب: القرآن، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده علم بالكتب السماوية السابقة، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول ﷺ فيما يبلغه عن ربه.
وبعد: فهذه هي سورة الرعد. وهذا تفسير وسيط لآياتها...
نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور محمد سيد طنطاوى المدينة المنورة: ٢٣ من المحرم سنة ١٤٠٢ هـ الموافق ١٩ من نوفمبر سنة ١٩٨١ م

صفحة رقم 499

تفسير سورة إبراهيم

صفحة رقم 501

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة ابراهيم- عليه السلام-، توخيت فيه أن يكون تفسيرا تحليليا، خاليا من الآراء السقيمة، والأقوال الضعيفة. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه، نافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم المؤلف د. محمد سيد طنطاوى

صفحة رقم 503

تعريف بسورة إبراهيم- عليه السلام-
١- سورة إبراهيم- عليه السلام- هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف، أما ترتيبها في النزول، فقد كان بعد سورة نوح- عليه السلام-.
وقد ذكر السيوطي قبلها سبعين سورة من السور المكية «١».
٢- وعدد آياتها ثنتان وخمسون آية في المصحف الكوفي، وإحدى وخمسون في البصري، وأربع وخمسون في المدني، وخمس وخمسون في الشامي.
٣- وسميت بهذا الاسم، لاشتمالها على الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم- عليه السلام- إلى ربه، ولا يعرف لها اسم آخر سوى هذا الاسم.
٤- وجمهور العلماء على أنها مكية، وليس فيها آية أو آيات غير مكية.
وقال الآلوسى: «أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة.
والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك، وهو الذي عليه الجمهور.
وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ فإنهما نزلتا في قتلى بدر من المشركين.. «٢»
.
وسنرى عند تفسيرنا لهاتين الآيتين، أنه لم يقم دليل يعتمد عليه على أنهما مدنيتان. وأن السورة كلها مكية كما قال جمهور العلماء.
٥- هذا، وبمطالعتنا لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل نراها في مطلعها تحدثنا عن وظيفة القرآن الكريم، وعن جانب من مظاهر قدرة الله- تعالى-، وعن سوء عاقبة الكافرين، وعن الحكمة في إرسال كل رسول بلسان قومه قال- تعالى-: الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ...

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧، تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦١ طبعة منير الدمشقي.

صفحة رقم 505

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثم نراها بعد ذلك تحدثنا عن طرف من رسالة موسى- عليه السلام- مع قومه، وعن أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم، وعن نماذج من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم.
قال- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ....
ثم تضرب السورة الكريمة بعد ذلك مثلا لأعمال الكافرين، وتصور أحوالهم عند ما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وتحكى ما يقوله الشيطان لهم في ذلك اليوم... فتقول:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ...
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً...
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.
ثم تسوق السورة مثلا آخر لكلمتى الإيمان والكفر فتقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ...
ثم يحكى ألوانا متعددة من الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلمه وقدرته ونعمه على عباده فتقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ....
ثم تسوق بعد ذلك تلك الدعوات الصالحات الجامعات لأنواع الخير، التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فتقول:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ....
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ.
ثم يختم- سبحانه- هذه السورة الكريمة بآيات فيها ما فيها من أنواع العذاب الذي أعده للظالمين، وفيها ما فيها من ألوان التحذير من السير في طريق الكافرين والجاحدين فيقول:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ.

صفحة رقم 506

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ....
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
٦- ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة، نراها قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلى:
(أ) تذكير الناس بنعم خالقهم عليهم، وتحريضهم على شكر هذه النعم وتحذيرهم من جحودها وكفرها...
ومن الآيات التي وردت في هذه السورة في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ.
وقوله- تعالى-: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
(ب) تسلية الرسول ﷺ عما لقيه من مشركي قريش، تارة عن طريق ما لقيه الأنبياء السابقون من أقوامهم، وتارة عن طريق بيان أن العاقبة للمتقين.
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ....
وقوله- تعالى-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ....
(ج) اشتمال السورة الكريمة على أساليب متعددة للترغيب في الإيمان، وللتحذير من الكفر، تارة عن طريق ضرب الأمثال، وتارة عن طريق بيان حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين، وتارة عن طريق حكاية ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة، وما يقوله الضعفاء للذين استكبروا وما يقوله الظالمون يوم يرون العذاب...
ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
وقوله- تعالى-: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ.

صفحة رقم 507

وقوله- تعالى-: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ....
هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة بإبرازها وبتركيز الحديث عنها، وهناك موضوعات أخرى عنيت السورة بتفصيل الحديث عنها، ويراها المتدبر لآياتها...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

صفحة رقم 508
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية