آيات من القرآن الكريم

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

ومثبتو القياس أجابوا عن ذلك بأن الحكم الثابت بالقياس نازل أيضا من عند الله تعالى، لأنه تعالى لما أمر بالعمل بالقياس، كان الحكم الذي دلّ عليه القياس نازلا من عند الله تعالى. وقد بيّنا أن تعريف كلمة الْحَقُّ وإن دلّ على اختصاص المنزل بكونه حقّا، فهو أعمّ من المنزل صريحا أو ضمنا، كالمثبت بالقياس وغيره، مما نطق المنزل بحسن اتّباعه.
بعض مظاهر قدرة الله في السّموات والأرض
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢ الى ٤]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
الإعراب:
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الباء متعلّقة برفع، أو ب تَرَوْنَها. وتَرَوْنَها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من السَّماواتِ، أي أنه ليس ثم عمد البتة، ويجوز أن تكون في موضع جر لأنها صفة ل عَمَدٍ أي أن ثمّ عمدا، ولكن لا ترى.
وَزَرْعٌ معطوف على جَنَّاتٌ، وتقديره: وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات

صفحة رقم 101

وزرع ونخيل صنوان مجتمعة من أصل واحد، وَغَيْرُ صِنْوانٍ غير مجتمعة من أصل واحد، وعلى قراءة الجرّ. وَزَرْعٌ معطوف على أَعْنابٍ، فتجعل الجنّات من الزّرع، وهو قليل.
البلاغة:
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ شبّه إزالة نور النّهار بظلمة الليل بالغطاء الكثيف، واستعار لفظ يُغْشِي من الغطاء الحسي للأمور المعنوية.
المفردات اللغوية:
عَمَدٍ جمع عماد، وهو الأسطوانة، والآية تحتمل ألا عمد أصلا، أو هناك عمد غير مرئية.
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، أو المراد منه المجاز، أي بالحفظ والتّدبير. وَسَخَّرَ ذلّل بالحركة المستمرة والسّرعة المعينة ونحو ذلك. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى كل منهما يسير في فلكه إلى يوم القيامة. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يصرف الأمر على وجه الحكمة. يُفَصِّلُ الْآياتِ يبين دلالات قدرته، وهي الأدلة التّي تقدم ذكرها من الشّمس والقمر. لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة وأمثالكم.
بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لتوقنوا وتتحققوا كمال قدرته بالبعث، فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء. واليقين: العلم الثابت الذي لا شكّ فيه.
مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولا وعرضا ليتمكّن الإنسان والحيوان من السّير عليها والانتفاع بمنافعها. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وخلق فيها جبالا ثوابت. وَأَنْهاراً عطفها على الجبال مباشرة لأنها أسباب تولدها ونبعها. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلّق بقوله تعالى: جَعَلَ فِيها. زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي جعل فيها من جميع أنواع الثّمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والذكر والأنثى.
يُغْشِي يغطي الليل بظلمته ضوء النّهار فيطمسه، ويصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ دلالات على وحدانية الله تعالى. لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تلك الآيات وفي صنع الله تعالى، فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم، دبّر أمرها، وهيأ أسبابها.
قِطَعٌ أي بقاع مختلفة. مُتَجاوِراتٌ متلاصقات، فمنها طيب ومنها سبخ، ومنها رخو ومنها صلب، وبعضها صالح للزّرع دون الشّجر وبعضها بالعكس، وذلك التّخصيص مع التّجاور والطّبيعة الأرضيّة من دلائل قدرة الله تعالى. وَجَنَّاتٌ بساتين.
صِنْوانٌ جمع صنو، أي ونخلات يجمعها أصل واحد، وتتشعّب فروعها. وَغَيْرُ صِنْوانٍ آي ومتفرّقات مختلفة الأصول،
وفي الحديث الذي أخرجه التّرمذي «عمّ الرّجل صنو

صفحة رقم 102

أبيه».
يُسْقى أي الجنّات وما فيها. الْأُكُلِ ما يؤكل، فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها الثّمر ومنها الحبّ، وغير ذلك من الاختلاف شكلا وقدرا ورائحة وطعما، وهو من دلائل قدرته تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآياتٍ لدلالات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبّرون ويستعملون عقولهم بالتفكّر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن أكثر النّاس لا يؤمنون، أعقبه ببيان ما يدلّ على التّوحيد والمعاد، بالاستدلال بأحوال السّموات وأحوال الشّمس والقمر، وبأحوال الأرض: جبالها وأنهارها، وبأحوال النّبات من زروع وثمار وأشجار مختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان.
وبعد أن بيّن الله تعالى أن القرآن حقّ، بيّن أن من أنزله قادر على الكمال، فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته.
التّفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه: أنه الذي خلق السّموات بغير أعمدة، لا نشاهدها بالعين، فهي لا عمد لها أصلا، وقوله: تَرَوْنَها مؤكد معنى كونها بغير عمد، لأن المراد إثبات وجود الله تعالى وقدرته، فلو كان لها أعمدة، فلا يكون في الآية دلالة على وجود الله تعالى، فهي تقوم بقدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره، وتقوم في الفضاء بإبقائه تعالى، حتى ولو قيل بتوازن قانون الجاذبية بين النّجوم والكواكب، فإن ذلك بخلق الله تعالى.
ثم استوى الله تعالى على عرشه استواء يليق به، والعرش شيء مخلوق، نؤمن به كما أخبر القرآن، وهو أعظم من السّموات والأرض،
جاء في الحديث: «ما السّموات السّبع وما فيهنّ وما بينهنّ في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة»
وفي رواية: «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ».

صفحة رقم 103

وسخّر الشّمس والقمر، أي ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، من دوران وضياء، وظهور واختفاء، جاء في آيات أخرى ما يبيّن دورة الشّمس حول نفسها، وحركة القمر حول الأرض، فقال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس ٣٦/ ٣٨- ٤٠].
وكلّ من الشّمس والقمر وغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمّى، أي لمدة معيّنة هي نهاية الدّنيا ومجيء القيامة، أو لمدة محددة يتمّ فيها دورانه، فالشّمس تتمّ دورتها في سنة، والقمر يتمّ دورته في شهر.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي إنّ الله تعالى يدبّر أمر الكون ويصرفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته، فيحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويغني ويفقر، ويهيء الأسباب للنّتائج والمسببات، ويسيّر الأفلاك في نظام دقيق ثابت لا يخطئ ولا يتغيّر.
يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يبيّن الدّلائل الدّالّة على وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته.
لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي يوضح الآيات والدّلالات الدّالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه قادر على أن يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه أولّ مرة، رجاء أن تتيقّنوا وتتحقّقوا، أو لتعلموا علم اليقين القاطع الذي لا شكّ فيه أنّ الله قادر على البعث والإعادة، والحساب والجزاء، وإحياء الموتى من القبور في أي مكان دفنوا في البرّ أو البحر أو في أجواف الحيوان.
فالذي قدر على خلق السّموات والأرض وما بينهما وما فيهما، ودبّر نظام الكون والحياة وأمور الخلق بدقة فائقة، لا يبعد عليه ولا يعجزه البعث الجديد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، ثم حساب أصحابها على ما قدّموا في دار الدّنيا.

صفحة رقم 104

هذه هي الأدلّة السّماوية على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، أتبعها بالأدلّة الأرضيّة، وهي: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي والله تعالى هو الذي جعل الأرض متّسعة، منبسطة للحياة، ممتدة في الطول والعرض، ليتمكّن الإنسان والحيوان من التّنقل فيها بسهولة، والانتفاع بخيراتها النّباتية والمعدنية كقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النّبأ ٧٨/ ٦]. ولا يمنع انبساط الأرض للحياة في أجزائها أنها غير كروية أو مسطّحة في حجمها الكلي، فقد أشار القرآن الكريم لكرويتها في آيات أخرى منها: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزّمر ٣٩/ ٥] والتّكوير: اللف على الجسم المستدير، فهي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها.
وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، لسقاية ما فيها من الثّمرات المختلفة الألوان والأشكال والطّعوم والرّوائح.
وجعل فيها من كلّ صنف من أصناف الثّمار زوجين اثنين أي ذكرا وأنثى، فالشّجر والزّرع لا ينتجان الثّمر والحبّ إلا من عضوين: ذكر وأنثى، وجعل أيضا من كلّ ثمر صنفين، إما من حيث الطّعم كالحلو والحامض، أو من حيث اللون كالأسود والأبيض، أو الطّبيعة كالحار والبارد.
ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النّبأ ٧٨/ ٦- ٨].
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي الله ضوء النّهار بظلمة الليل، ويطرد ظلام الليل بنور النّهار، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النّبأ ٧٨/ ٩- ١١]، وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [النّمل ٢٧/ ٨٦]، وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الرّوم ٣٠/ ٢٣].

صفحة رقم 105

ثم نبّه الله تعالى في ختام الآية إلى وجوب التّفكّر في تلك الآيات السّماوية والأرضية، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إن في مخلوقات الله وعجائب خلقه وآلائه وحكمه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها ويعتبر بعظمتها، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه، وإرادته، مما لا يوجد له مثيل في الكون، وذلك يستوجب تخصيصه بالعبادة، والخضوع لسلطانه، والتّزام أوامره.
ومن الآيات الأرضية اختلاف أجزاء الأرض بالطبيعة والماهية، وهي مع ذلك متجاورة فقال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ.. ، أي وفي الأرض أجزاء يجاور بعضها بعضا، ويقرب بعضها من بعض، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص، فمنها طيب ينبت ما ينفع النّاس، ومنها سبخة مالحة لا تنبت شيئا، ومنها صالح للزّرع دون الشّجر وبالعكس، ومنها الرّخوة ومنها الصّلبة، وتختلف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه صفراء، وهذه بيضاء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكلّ متجاورات، وهي مختلفة الصّفات، مما يدلّ على وجود الخالق المختار، الذي لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
وفيها بساتين من أعناب، وزروع متفاوتة من حبوب مختلفة لتوفير غذاء الإنسان والحيوان، ونخيل صنوان وغير صنوان، والصّنوان: ذو الأصول أو الجذوع المجتمعة في منبت واحد كالرّمان والتّين وبعض النّخيل، وغير الصّنوان:
ما كان على أصل أو جذع واحد كسائر الأشجار.
جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه التّرمذي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر: «أما شعرت أن عمّ الرّجل صنو أبيه».
وقال البراء رضي الله عنه: الصّنوان هي النّخلات في أصل واحد، وغير لصّنوان: المتفرّقات.
ويظهر التّفاوت العجيب في بقاع الأرض وأصناف النّبات في أن الأرض

صفحة رقم 106

المنبتة لها واحدة، وتسقى من ماء واحد، وتتفاوت طعومها، وتتفاضل مآكلها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي إن في هذا التّفاوت مع وجود مصادر التّشابه لأدلّة باهرة على وجود الله ووحدانيته، لقوم يتدبّرون ويفكّرون فيها، فهذا الاختلاف في أجناس الثّمرات والزّروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها، حلاوة وحموضة ومرارة وعذوبة وتلوّنا، وهذا الاختلاف في الأزهار في ألوانها وروائحها وإبداع ورقاتها وزهرها، مع أنها كلّها تستمد من طبيعة واحدة، وهو الماء والأرض، في كلّ ما ذكر آيات لمن كان واعيا، ومن أعظم الأدلّة على وجود الخالق الفاعل المختار القادر على كلّ شيء، ومن قدر على الإيجاد والخلق أول مرّة فهو قادر على الإعادة والتّكوين مرّة ثانية، بل هو أهون عليه.
وختم الآيات الثلاث بما ذكر: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دليل على وجوب استخدام النّظر والعقل والفكر، للتّوصل إلى الاقتناع الذّاتي الحرّ بوجود الخالق ووحدانيته، وهذا الإعمال للعقل من مقاصد الإسلام، وفرائض القرآن، وأصول الدّين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من لطف الله بعباده ورحمته بهم وإرشاده لهم أنه أوضح لهم الأدلّة، ولفت نظرهم إلى ما يدلّ على وجوده وكمال قدرته، وعلمه، وإرادته، فتخصيص كلّ واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى.
٢- الأدلّة متنوعة: سماوية وأرضية، فالسّماوية ثلاثة: رفع السّموات بغير أعمدة، والاستواء على العرش، وتسخير الشّمس والقمر وتذليلهما وتطويعهما

صفحة رقم 107

لغايات معينة في مدّة معينة لمنافع الخلق ومصالح العباد ما داموا في الدّنيا وحتى تقوم السّاعة، يدبّر الله فيها الأمر، أي يصرفه على ما يريد بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، وإنزال الوحي وبعثة الرّسل وتكليف العباد، ويبيّن الآيات، فمن قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة، لذا قال:
لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وهذا إثبات للألوهيّة والرّبوبية والمعاد يوم القيامة، فمن كان يمكنه تدبير من فوق العرش إلى ما تحت الثّرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
وأمّا الأدلة الأرضية فهي ستّة: بسط الأرض بالنّسبة للنّاظر ليمكن العيش عليها، وتثبيتها بالجبال الرّاسيات الشّامخات، وإجراء الأنهار وتفجير الينابيع، وجعل الثّمار ذات وجهين اثنين، أي من صنفين متعارضين كالذّكر والأنثى، والحلو والحامض، والحار والبارد، والأبيض والأسود، وتغطية الليل النّهار، وتبديد ظلمة الليل بضوء النّهار، وتفاوت ما تنتجه الأرض من حبوب وزروع وثمار وأشجار، مجتمعة ذات جذوع متعددة من منبت واحد، ومتفرّقة ذات جذع مستقلّ بكلّ واحدة منها.
فكلّ ما ذكر يدلّ دلالة قطعيّة على أنّ الكلّ بتدبير الله الفاعل المؤثر المختار، لا بالطّبيعة ولا بالصّدفة.
٣- لا يفهم من آية: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ، وآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النّازعات ٧٩/ ٣٠] أنّ الأرض غير كروية، فقد ثبتت كرويتها بالأدلّة العلمية العقلية والحسيّة، ودلّت أقمار الفضاء الدّائرة حول الأرض بما لا يقبل أي شكّ أو جدل على أن الأرض كروية، وقد صرح بكرويتها علماؤنا كالرّازي «١»، فإن المقصود أن كل قطعة من الأرض تشاهد كالسّطح، وأما مجموعها

(١) تفسير الرّازي: ١٩/ ٢- ٣

صفحة رقم 108
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية