آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

٦- لم يستعجل يعقوب عليه السّلام بطلب المغفرة لأولاده والدّعاء لهم، وإنّما أخّر ذلك- كما قال ابن عباس- إلى السّحر، قال طاوس: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وهذا رأي الأكثرين.
وهذا الموقف من يعقوب يختلف عن موقف يوسف عليهما السّلام، لأنّ دعاء الأول كان مؤجّلا، ودعاء الثّاني كان في الحال. والسبب أن حال الأب حال المربّي، فهو يريد تعظيم الذّنب في أنفسهم، ولأنّ ذنبهم لم يكن موجّها إليه مباشرة، وإنما إلى يوسف عليه السّلام وأخيه، ولأن خطأهم ذنب كبير حدثت منه أضرار كثيرة، فيحتاج إلى توبة نصوح، وندم شديد، ولا يمحى بمجرد طلب الاستغفار، ثمّ إن يوسف عليه السّلام كان قادرا على عقابهم وهم ضعاف، فأراد المبادرة إلى تأمينهم من خوف الانتقام منهم، وتهدئة نفوسهم، وإظهارا للسّرور عقب المفاجأة بأنه أخوهم، وليرى الناس فضل العفو عند المقدرة، ويصبح للنّاس أسوة حسنة.
الفصل السابع عشر من قصة يوسف لقاء أسرة يعقوب عليه السّلام في مصر
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)

صفحة رقم 67

الإعراب:
سُجَّداً جمع ساجد، كشهّد جمع شاهد، وهو حال من واو خَرُّوا وهي حال مقدّرة.
البلاغة:
إِنْ شاءَ اللَّهُ جملة دعائية للتّبرّك وجعل الأمان بمشيئة الله تعالى، وهي متقدّمة على قوله تعالى: آمِنِينَ، والتّقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً المراد بأبويه أبوه وأمه أو خالته من باب التّغليب للأب، والسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير، لكن قدّم الرّفع لفظا للاهتمام بتعظيمه أبويه.
المفردات اللغوية:
فَلَمَّا دَخَلُوا في الكلام حذف، تقديره: فرحل يعقوب عليه السّلام بأهله أجمعين، وساروا حتى تلقوا يوسف عليه السّلام. آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمّ إليه أباه وأمه، أو خالته، نزلت منزلة الأم تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله تعالى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة ٢/ ١٣٣] وإسماعيل كان عمّا ليعقوب عليه السّلام.
وَقالَ يوسف عليه السّلام لهم. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ سرير الملك. وَخَرُّوا لَهُ أي أبواه وإخوته الأحد عشر. سُجَّداً سجود تحية وتكرمة له، وسجود انحناء لا سجود عبادة، ولا وضع جبهة على الأرض، فإن ذلك كان تحيتهم في زمانهم. تَأْوِيلُ رُءْيايَ مآلها وعاقبتها. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يقل من الجبّ تكرّما، لئلا يخجل إخوته. الْبَدْوِ البادية. نَزَغَ أفسد ووسوس، يقال: نزغ بين الناس: أفسد بينهم بالحثّ على الشّرّ، وأصل النّزغ: النّخس، يقال: نزغ الرّائض الدّابة: إذا نخسها وحملها على الجري، ونزغه الشيطان:
نخسه، ليحثّه على المعاصي. لَطِيفٌ لطيف التّدبير لما يشاء، إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته. الْعَلِيمُ بخلقه وبوجوه المصالح والتّدابير. الْحَكِيمُ في صنعه، الذي يفعل كلّ شيء في وقته، وعلى وجه يقتضي الحكمة.
المناسبة:
بعد أن طلب يوسف عليه السّلام من إخوته أن يأتوه بأهله أجمعين، أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان إلى مصر، فخرج يوسف عليه السّلام للقائهم، ومعه بأمر الملك أكابر دولته.

صفحة رقم 68

فتمّ لقاء الأسرة في المرّة الرّابعة من رحلات أولاد يعقوب عليه السّلام إلى مصر، ورأوا يوسف عليه السّلام في عزّ وأبهة، وتحققت رؤيا يوسف عليه السّلام بسجود إخوته الأحد عشر مع أبيه وأمه أو خالته، فتمّ الاجتماع بعد الفرقة، والأنس بعد الكدر.
روي أن يوسف عليه السّلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة، ليتجهّز إليه بمن معه، وخرج يوسف عليه السّلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر للقاء يعقوب نبيّ الله عليه السّلام.
قيل: إن يعقوب وولده دخلوا مصر، وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون منهم ست مائة ألف وخمس مائة، وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشّيوخ.
وأقام يعقوب عليه السّلام عند ابنه يوسف عليه السّلام أربعا وعشرين سنة، أو سبع عشرة سنة، وكانت مدّة فراقه ثماني عشر، أو أربعين أو ثمانين سنة، وحضره الموت، فوصّى يوسف عليه السّلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه، فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وأقام بعده ثلاثا وعشرين سنة.
التّفسير والبيان:
بناء على طلب يوسف عليه السّلام من إخوته إحضار أهله أجمعين إليه من بلاد كنعان إلى مصر، للإقامة معه فيها، حضر أبوه وخالته وإخوته وأسرهم، فلما أخبر يوسف عليه السّلام باقترابهم، خرج لتلقّيهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف عليه السّلام، لتلقي نبيّ الله يعقوب عليه السّلام، فلما دخلوا على يوسف عليه السّلام في أبهة سلطانه، بعد أن استقبلهم في الطريق مع جموع غفيرة، ضمّ إليه أبويه وعانقهما: وهما أبوه وأمه على القول الذي رجّحه

صفحة رقم 69

ابن جرير، بأنّها كانت حيّة، أو أبوه وخالته لأن أمه قد ماتت، فتزوّج أبوه خالته.
وقال لأسرته جميعا: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأموالكم وأهليكم، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
ورفع أبويه على سرير ملكه بأن أجلسهما معه، تكريما لهما، وسجد له الإخوة الأحد عشر والأبوان سجود تحيّة وإكرام له، لا سجود عبادة وتقديس، وكان سجود الانحناء هو تحيّة الملوك والعظماء في زمنهم.
ويلاحظ أن في الآية حذفا في مطلعها تقديره: فجاء يعقوب وأسرته حتى وصلوا إلى مصر، وفيها تقديم المشيئة إِنْ شاءَ اللَّهُ على قوله: آمِنِينَ لأن القصد اصطحاب الدّخول بالأمان والسّلامة والغنيمة، وكذلك فيها تقديم وتأخير بين الرّفع على العرش وبين السّجود، فالسّجود متقدّم على الرّفع على السّرير الملكي، لكن قدّم الرّفع، اهتماما بتعظيم أبويه.
وحينئذ أعادت الذّاكرة إلى ذهن يوسف عليه السّلام رؤياه السابقة في عهد الصّغر، فقال لما رأى سجود أبويه وإخوته: يا أبت، هذا السّجود تأويل رؤياي القديمة حال صغري، وهي: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وتأويل رؤياي: ما آل إليه الأمر.
إن تلك الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة وصحيحة صدقا، فإن رؤيا الأنبياء حقّ ثابت، كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده، صار سببا لوجوب ذلك الذّبح عليه في اليقظة، فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف عليه السّلام، وحكاها ليعقوب من قبل، سببا لوجوب ذلك السّجود.
وقد أحسن الله تعالى إليّ وأفاض عليّ من نعمه، إذ أطلق سراحي من

صفحة رقم 70

السّجن، ورزقني الملك، وجاء بكم من البادية، وكانوا أهل بادية وماشية وشظف عيش، فنقلكم إلى الحضر وترف المدينة.
ولم يذكر إخراجه من البئر، ترفّعا عن لوم إخوته، وتكريما لهم، وحفاظا على حيائهم، ولأن السّجن كان آخر المحن، وأخطر من السّقوط في الجبّ لما فيه من اتّهام بالنّساء، ولأنه بعد خروجه من البئر صار عبدا لا ملكا، وصار بعد السّجن ملكا، فكان الإخراج منه أقرب إلى الإنعام الكامل.
حدث هذا كلّه من بعد أن نزغ الشّيطان، أي أفسد وأغوى بيني وبين إخوتي، وقد أضاف النّزغ إلى الشّيطان لأنه سبب الإفساد، وتكريما لإخوته.
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي إذا أراد أمرا قيّض له أسبابا وقدّره ويسّره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الحكيم في أقواله وأفعاله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن العاطفة بين الولد وأبويه طبيعية فطرية، لذا كان إكرام يوسف عليه السّلام لأبويه أشدّ من إكرام إخوته، فعانقهما وضمّهما إليه، وأجلسهما على سرير الملك معه، واكتفى بأن قال لجميع الأسرة: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
٢- دلّ قوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ على تأمين الحاكم الدّاخلين إلى بلاده من قطر آخر، وهو أمان يشمل الأنفس والأهل والأموال.
والمراد بقوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ كما ذكر ابن عباس: أقيموا بها آمنين، سمّى الإقامة دخولا لاقتران أحدهما بالآخر.

صفحة رقم 71

والأمان الحقيقي لا يكون إلا بمشيئة الله، لذا علقه بقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ مثل قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح ٤٨/ ٢٧].
٣- أجمع المفسّرون على أنّ سجود أسرة يوسف عليه السّلام له كان سجود تحيّة وانحناء على عادتهم المألوفة في التّحية، لا سجود عبادة ولا على الأرض. وقد نسخ الله تعالى ذلك كله في شرعنا.
وبالرّغم من نسخ الانحناء في التّحية، فإن بعض المسلمين مع الأسف، لا يتنبهون لذلك، وينحنون في التّحية والسّلام، كما يفعل الغربيون الآن.
روى ابن عبد البرّ في التّمهيد عن أنس بن مالك قال: قلنا: يا رسول الله، أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: «لا»، قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال: «لا»، قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال: «نعم».
وأمّا القيام للقادم، كما أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة الأوس
بقوله في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود عن أبي سعيد: «قوموا إلى سيّدكم وخيركم»
يعني سعد بن معاذ، فهو جائز إذا لم يؤثّر ذلك في نفسه، فإن أثّر فيه، وأعجب به، ورأى لنفسه حظّا، لم يجز إعانته على ذلك،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يتمثّل له النّاس قياما، فليتبوأ مقعده من النّار».
وتجوز الإشارة بالإصبع للبعيد عنك، دون الدّاني القريب، وإذا سلّم لا ينحني، ولا أن يقبّل مع السّلام يده، ولأن الانحناء على معنى التّواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم.
ولا بأس بالمصافحة، فقد صافح النّبي صلّى الله عليه وسلّم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها،
وقال فيما أخرجه ابن عدي عن ابن عمر، وهو ضعيف: «تصافحوا يذهب الغلّ».
وروى غالب التّمار عن الشّعبي أن أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا إذا التقوا تصافحوا،

صفحة رقم 72
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية