
مِصْرَ، فَمَعَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ يَمْتَنِعُ بَقَاءُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مَخْفِيَّةً.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ لَمْ يَبْعَثْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَدًا إِلَى يَعْقُوبَ وَيُعْلِمْهُ أَنَّهُ فِي الْحَيَاةِ وَفِي السَّلَامَةِ وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَخَافُ إِخْوَتَهُ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَلِكًا قَاهِرًا كَانَ يُمْكِنُهُ إِرْسَالُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ وَإِخْوَتُهُ مَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ الرَّسُولِ.
وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ جَازَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضَعَ الصَّاعَ فِي وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ يَسْتَخْرِجَهُ مِنْهُ وَيُلْصِقَ بِهِ تُهْمَةَ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا عَنْهَا.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: كَيْفَ رَغِبَ فِي إِلْصَاقِ هَذِهِ التُّهْمَةِ بِهِ وَفِي حَبْسِهِ عِنْدَ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَزْدَادُ حَزْنُ أَبِيهِ وَيَقْوَى.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ تُزِيلُ عَنِ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْخَوَاطِرِ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ يَكُونُ كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَثِيرَ الِاشْتِغَالِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَمَالِ الاستغراق.
والجواب عن الثاني: أن الداعي الْإِنْسَانِيَّةَ لَا تَزُولُ فِي الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ فَتَارَةً كان يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] وَتَارَةً كَانَ يَقُولُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [يُوسُفَ: ١٨] وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَسْئِلَةِ فَالْقَاضِي أَجَابَ عَنْهَا بِجَوَابٍ كُلِّيٍّ حَسَنٍ، فَقَالَ هَذِهِ الْوَقَائِعُ الَّتِي نُقِلَتْ إِلَيْنَا إِمَّا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ أَوْ لَا يُمْكِنُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ زَمَانَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَخَرْقُ الْعَادَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَلْدَةَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ بَلْدَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ خَبَرُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ على سبيل نقض العادة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠)
[في قوله تعالى فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مسنا وأهلنا الضر] اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هاهنا مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا قَالَ لِبَنِيهِ: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف: ٨٧] قَبِلُوا مِنْ أَبِيهِمْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَعَادُوا إِلَى مِصْرَ وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالُوا له: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ يَعْقُوبُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَسَّسُوا أَمْرَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ فَلِمَاذَا عَدَلُوا إِلَى الشَّكْوَى وَطَلَبُوا إِيفَاءَ الْكَيْلِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُتَحَسِّسِينَ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ وَالِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ وَضِيقُ الْيَدِ وَرِقَّةُ الْحَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ وَشِدَّةُ الْحَاجَةِ مِمَّا يُرَقِّقُ الْقَلْبَ فَقَالُوا: نُجَرِّبُهُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنْ رَقَّ قَلْبُهُ لَنَا ذَكَرْنَا لَهُ الْمَقْصُودَ

وَإِلَّا سَكَتْنَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَذِهِ الواقعة وقالوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ وَالْعَزِيزُ هُوَ الْمَلِكُ الْقَادِرُ الْمَنِيعُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ وَكَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّةُ الطَّعَامِ وَعَنَوْا بِأَهْلِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْإِزْجَاءِ فِي اللُّغَةِ، الدَّفْعُ قَلِيلًا قَلِيلًا وَمِثْلُهُ التَّزْجِيَةُ يُقَالُ الرِّيحُ تُزْجِي السَّحَابَ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النُّورِ: ٤٣] وَزَجَّيْتُ فُلَانًا بِالْقَوْلِ دَافَعْتُهُ، وَفُلَانٌ يُزْجِي الْعَيْشَ أَيْ يَدْفَعُ الزَّمَانَ بِالْحِيلَةِ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّمَا وَصَفُوا تِلْكَ الْبِضَاعَةَ بِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ إِمَّا لِنُقْصَانِهَا أَوْ لِرَدَاءَتِهَا أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَالَ الْحَسَنُ: الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ الْقَلِيلَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهَا كَانَتْ رَدِيئَةً وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الرَّدَاءَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَتْ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً لَا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: الأقط، خَلِقُ الْغِرَارَةِ وَالْحَبْلِ وَأَمْتِعَةٌ رَثَّةٌ، وَقِيلَ: مَتَاعُ الْأَعْرَابِ الصُّوفُ وَالسَّمْنُ. وَقِيلَ: الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: الْأَقِطُ، وَقِيلَ: النِّعَالُ وَالْأُدْمُ، وَقِيلَ: سَوِيقُ الْمُقْلِ، وَقِيلَ: صُوفُ الْمَعْزِ، وَقِيلَ: إِنَّ دَرَاهِمَ مِصْرَ كَانَتْ تُنْقَشُ فِيهَا صُورَةُ يُوسُفَ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي جَاءُوا بِهَا مَا كَانَ فِيهَا صُورَةُ يُوسُفَ فَمَا كَانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ النَّاسِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَتِ الْبِضَاعَةُ الْقَلِيلَةُ الرَّدِيئَةُ مُزْجَاةً؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ:
هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُزْجِي الْعَيْشَ أَيْ يَدْفَعُ الزَّمَانَ بِالْقَلِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ نُدَافِعُ بِهَا الزَّمَانَ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّقْدِيرُ بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٌ بِهَا الْأَيَّامُ، الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا قِيلَ لِلدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مُزْجَاةٌ، لِأَنَّهَا مَرْدُودَةٌ مَدْفُوعَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِمَّنْ يُنْفِقُهَا/ قَالَ وَهِيَ مِنَ الْإِزْجَاءِ، وَالْإِزْجَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ السَّوْقُ وَالدَّفْعُ. الثَّالِثُ: بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ أَيْ مُؤَخَّرَةٍ مَدْفُوعَةٍ عَنِ الْإِنْفَاقِ لَا يُنْفِقُ مِثْلَهَا إِلَّا مَنِ اضْطُرَّ وَاحْتَاجَ إِلَيْهَا لِفَقْدِ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهَا. الرَّابِعُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: مُزْجَاةٌ لُغَةُ الْعَجَمِ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ لُغَةِ الْقِبْطِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفُ الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ مَنْسُوبًا إِلَى الْقِبْطِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُزْجَاةٍ بِالْإِمَالَةِ، لِأَنَّ أصله الياء، والباقون بالنصب والتفخيم.
[في قوله تعالى فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ فِي كَوْنِ الْبِضَاعَةِ مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعهما ولما وصفوا شدة حالهم وو صفوا بِضَاعَتَهُمْ بِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ قَالُوا لَهُ: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَالْمُرَادُ أَنْ يُسَاهِلَهُمْ إِمَّا بِأَنْ يُقِيمَ النَّاقِصَ مَقَامَ الزَّائِدِ أَوْ يُقِيمَ الرَّدِيءَ مَقَامَ الْجَيِّدِ، ثُمَّ قَالُوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وَالْمُرَادُ الْمُسَامَحَةُ بِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ وَأَنْ يُسَعِّرَ لَهُمْ بِالرَّدِيءِ كَمَا يُسَعِّرُ بِالْجَيِّدِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا مِنْهُمْ لِلصَّدَقَةِ فَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى سَبِيلِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْكَرَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ وَقَالُوا حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالُ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ يُنَافِي طَلَبَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْخُضُوعِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَيَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّه لَا يَتَصَدَّقُ إِنَّمَا يَتَصَدَّقُ الَّذِي يَبْتَغِي الثَّوَابَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي أَوْ تَفَضَّلْ، فَعَلَى هَذَا التَّصَدُّقُ هُوَ إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ وَالْمُتَصَدِّقُ الْمُعْطِي، وَأَجَازَ اللَّيْثُ أَنْ يُقَالَ لِلسَّائِلِ: مُتَصَدِّقٌ وَأَبَاهُ الْأَكْثَرُونَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وَقِيلَ: دَفَعُوا إِلَيْهِ كِتَابَ يَعْقُوبَ فِيهِ مِنْ

يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلِ اللَّه ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّه ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّه إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُوَكَّلٌ بِنَا الْبَلَاءُ أَمَّا جَدِّي فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَرُمِيَ فِي النَّارِ لِيُحْرَقَ فَنَجَّاهُ اللَّه وَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَبِي فَوُضِعَ السِّكِّينُ عَلَى قَفَاهُ لِيُقْتَلَ فَفَدَاهُ اللَّه، وَأَمَّا أَنَا فَكَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِي إِلَيَّ فَذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ ثُمَّ أَتَوْنِي بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ وَقَالُوا قَدْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ فَذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ أُمِّهِ وَكُنْتُ أَتَسَلَّى بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَيْكَ ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ سَرَقَ وَإِنَّكَ حَبَسْتَهُ عِنْدَكَ وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَسْرِقُ وَلَا نَلِدُ سَارِقًا، فَإِنْ رَدَدْتَهُ عَلَيَّ وَإِلَّا دَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً تُدْرِكُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِكَ. فَلَمَّا قَرَأَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَمْ يَتَمَالَكْ وَعِيلَ صَبْرُهُ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ يُوسُفُ.
ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ كِتَابَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَلَانَ قَلْبُهُ وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يُوسُفُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا رأى إخوته تضرعوا إليه وو صفوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ أَدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ فَصَرَّحَ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ يُوسُفُ، وَقَوْلُهُ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ اسْتِفْهَامٌ يُفِيدُ تَعْظِيمَ الْوَاقِعَةِ، وَمَعْنَاهُ: مَا أَعْظَمَ مَا ارْتَكَبْتُمْ فِي يُوسُفَ وَمَا أَقْبَحَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُذْنِبِ هَلْ تَدْرِي من عصيت وعل تَعْرِفُ مَنْ خَالَفْتَ؟
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَصْدِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يُوسُفَ:
١٥] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَخِيهِ فَالْمُرَادُ مَا فَعَلُوا بِهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلْغَمِّ بِسَبَبِ إِفْرَادِهِ عَنْ أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَيْضًا كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْإِيذَاءِ قَالُوا فِي حَقِّهِ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُفَ: ٧٧] وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ إِنَّمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ حَالَ مَا كُنْتُمْ فِي جَهَالَةِ الصِّبَا أَوْ فِي جَهَالَةِ الْغُرُورِ، يَعْنِي وَالْآنَ لَسْتُمْ كَذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: ٦] قِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ يَا رَبِّ غَرَّنِي كرمك فكذا هاهنا إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامَ إِزَالَةً لِلْخَجَالَةِ عَنْهُمْ وَتَخْفِيفًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّ إِخْوَتَهُ قَالُوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ إِنَّكَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ بِفَتْحِ الْأَلْفِ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ وَبِالْيَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو آيِنَّكَ بِمَدِّ الْأَلِفِ وَهُوَ رِوَايَةُ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ، والباقون أَإِنَّكَ بِهَمْزَتَيْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَوَ أَنْتَ يُوسُفُ فَحُصِّلَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ بِالْخَبَرِ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ وَتَبَسَّمَ فَأَبْصَرُوا ثَنَايَاهُ، وَكَانَتْ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ شَبَّهُوهُ بِيُوسُفَ، فقالوا له استفهاما أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَإِنَّمَا أَجَابَهُمْ عَمَّا اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى وَضَعَ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَكَانَ فِي فَرْقِهِ عَلَامَةٌ وَكَانَ لِيَعْقُوبَ وَإِسْحَاقَ مِثْلُهَا شِبْهُ الشَّامَةِ، فَلَمَّا رَفَعَ التَّاجَ عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ كَثِيرٍ أَرَادَ الِاسْتِفْهَامَ ثُمَّ حَذَفَ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَقَوْلُهُ: قالَ أَنَا يُوسُفُ فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَأَنْتَ مُبْتَدَأٌ وَيُوسُفُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا صَرَّحَ بِالِاسْمِ تَعْظِيمًا لِمَا نَزَلْ بِهِ مِنْ ظُلْمِ إِخْوَتِهِ وَمَا عَوَّضَهُ اللَّه مِنَ الظفر والنصر