
أخذ من الخلق حزنى الذي أمضّني كتمانه، فأفشيته بهذه الكلمة (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) بل شكوت ذلك إلى الله وحده.
َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
أي وأنا أعلم فى ابتلائى بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فأعلم أنه حى يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقّ، وتحسبون أنى بحزني ساخط على قضاء الله فى شىء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلا هو بالغه، وإنى لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم فى يوسف من قبل، وبأخيه الذي كان يسلينى عنه من بعده.
وعن ابن عباس فى تفسير الآية: أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق وأننى سأسجد له.
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما.
(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه عن النفس هذا الكرب، بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب.
(إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بقدرته وسعة رحمته ويجهلون مالله فى عباده من حكم بالغة ولطف خفى، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر أو جلب خير بخعوا أنفسهم (انتحروا) همّا وحزنا.
أما المؤمن حقا فلا تقنطه المصايب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، ومن ثم قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه فى البلاء ويحمده فى الرخاء.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٣]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)

تفسير المفردات
الضر: أي ضر المجاعة من الهزال والضعف، والمزجاة: الرديئة التي يدفعها التجار من أزجى الشيء وزجاه: إذا دفعه برفق كما قال: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» وآثرك: أي اختارك وفضلك، والخاطئ: هو الذي يأتى بالخطيئة عمدا، والمخطئ:
من إذا أراد الصواب صار إلى غيره، والخطء: الذنب، وخطّأته: قلت له أخطأت، ولا تثريب: أي لا لوم ولا تأنيب وثرّب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه، ويأت بصيرا أي يصر بصيرا فى الحال، أو يأت إلىّ وهو بصير.
الإيضاح
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي بعد أن قبلوا وصية أبيهم حين قال لهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، وعادوا إلى مصر- دخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له يا أيها العزيز أصابنا الهزال والضعف لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه- ليروا تأثير الشكوى فيه،

فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجّح أنه هو يوسف فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه.
(وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ببضاعة رديئة يحتقرها التجار ويدفعونها احتقارا لها.
(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي فأتمه كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك.
(وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن رداءتها.
(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فيخلف ما ينفقون ويضاعف الأجر لهم.
وقد بالغوا فى الضراعة والتذلل، لما كانوا يرون من تأثير ذلك فى ملامح وجهه، وجرس صوته، ومعالبة دمعه.
ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر ردّ يوسف عليهم.
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي قال ما أعظم ما فعلتم بيوسف من قبل وبأخيه بنيامين من بعد على قرب العهد، وما أقبح ما أقدمتم عليه، كما يقال للمذنب هل تدرى من عصيت، وهل تعرف من خالفت.
(إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبح ما فعلتموه فى حكم شرعكم، وحقوق بر الوالدين وما يجب من رحمة القرابة والرحم.
وخلاصة ذلك- إنكم كنتم فى حال يغلب عليكم فيها الجهل بهذه الحقوق، وبعاقبة البغي والعقوق.
وقد يكون المراد من الجهل الطيش والنّزق واتباع الهوى وطاعة الحسد والأثرة.
وقد قال لهم هذه المقالة تمهيدا لتعريفهم بنفسه، إذ آن أن يصارحهم به بعد أن بلغ الكتاب أجله، وبلغت به وبهم الأقدار غايتها، ولم يبق بعد هذا إلا التصريح، وتأويل رؤياه التي كانت السبب فى كل ما حدث من تلك الأفاعيل.
وقد ذكّر يوسف إخوته بذنوبهم تذكيرا مجملا قبل أن يتعرف إليهم بذكر

العذر وهو الجهل بقبح الذنب فى ذاته وبسوء عاقبته لتمكن نزغ الشيطان من أنفسهم الأمارة بالسوء، وقد ذكرهم بطريق سؤال العارف المتجاهل على طريق التقرير لا التقريع والتوبيخ كما يدل عليه نفى التثريب والدعاء بالمغفرة.
قال صاحب الكشاف فى تفسير الآية: أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب «فقال هل علمتم» قبح «ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون» لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعنى هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم فى الدين لا معاتبة وتثريبا، إيثارا لحق الله على حق نفسه فى ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها اه.
وكان سؤاله إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه وهو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداءة إلى النهاية- مصدقا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه فى غيابة الجب من قوله: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» إذ يبعد أن يعرف هذا سواه، فأرادوا أن يتثبتوا من ذلك ويستيقنوا به، فوجهوا إليه سؤالا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع.
(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟) أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف- وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه.
(قالَ أَنَا يُوسُفُ) الذي ظلمتمونى غاية الظلم، وقد نصرنى الله فأكرمنى وأوصلنى إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه فى غيابة الجب، ثم صرت إلى ما ترون.
(وَهذا أَخِي) الذي فرّقتم بينى وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون.

(قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة، وآنسنا بعد الوحشة، وخلّصنا مما ابتلينا به.
وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخى لا أخوكم.
تنبيه
فإن قيل لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه فى أول مرة ليبشروا أباهم به وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون فى ذلك السرور كل السرور له؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيّم فى كتابه [الإغاثة الكبرى] قال رحمه الله: لو عرّفهم بنفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحلّ ذلك المحلّ وهذه عادة الله فى الغايات العظيمة الحميدة، إذا أراد أن يوصّل عبده إليها هيأ له أسبابا.
من المحن والبلايا والمشاقّ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام.
فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب.
وبالجملة فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره والنار وحفها بالشهوات اه.

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو: من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشىء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره فى الدنيا ثم يؤتيه أجره فى الآخرة.
وفى الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين الله، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى.
(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) أي قال إخوة يوسف له: لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل.
(وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي وما كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك إلا متعمدين للخطيئة، ولا عذر لنا فيها عند الله ولا عند الناس.
وبعد أن قدّموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا.
(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا لوم ولا تعنيف عليكم فى هذا اليوم الذي هو مظنّته، ولكن لكم عندى الصفح والعفو. وهو إذا لم يثرّب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى.
وقال السيد المرتضى: إن كلمة (اليوم) موضوعة موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا | واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا |
(يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي يعفو الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، وهو أرحم الراحمين لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته.
وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلّم بالآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال: «ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟ صفحة رقم 35