
لم يمت وهو ما ذكر؛ أنه كان يعلم من اللَّه ما لا يعلمون هم.
ويشبه أن يكون قوله: أعلم من اللَّه؛ أي: أنتفع بعلمي ما لا تنتفعون أنتم، وأصله: أن إخوة يوسف لو علموا أن أمر يوسف يبلغ ما بلغ من الملك والعز - ما قصدوا قصد تغييبه عن والده، ولا سعوا فيه فيما سعوا من إفساد أمره، لكنهم لم يعلموا واللَّه أعلم - أو علم من اللَّه شيئًا لم يبين ما لا يعلمون هم؛ كقول إبراهيم [.... ]، وما ذكر أهل التأويل: أن يعقوب قال: كذا؛ من النياح على يوسف والجزع عليه؛ لا يحتمل ذلك؛ لأنه قال - حين أخبروه بذلك -: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وما ذكروا هم منه ليس هو بصبر؛ فضلا أن يكون جميلا.
وقوله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)
قال أهل التأويل: تحسسوا: اطلبوه واستخبروا عنه وعن أخيه، لكن غير هذا كأنه أقرب؛ وهو من وقوع الحس عليه؛ كأنه قال: اذهبوا فانظروا إليه وإلى أخيه؛ لأنهم إن لم يكونوا يعلمون أن يوسف أين هو - فلقد كانوا يعلمون من حال أخيه بنيامين أنه أين هو؟ فلو كان على الطلب والبحث والاستخبار؛ على ما قاله أهل التأويل؛ إن احتمل في يوسف فذلك لا يحتمل في أخيه؛ إذ هم كانوا يعلمون مكانه وأين هو؟ وإن كانوا لا يعلمون مكان يوسف ولا أين هو، وهو إنما أمرهم أن يتحسسوا عنهما جميعًا؛ فدل - واللَّه أعلم - أنه من وقوع الحس والبصر عليهما؛ لا من البحث والطلب - واللَّه أعلم - فكأنه علم بالوحي أنه هنالك وأخوه معه، لكنه لم يخبر بنيه أنه هنالك؛ لما علم أنهم يتكاسلون ويتثاقلون عن الذهاب إليه؛ فإنما أمرهم بذلك أمر تعريض لا أمر تصريح.
أو أن يكون قوله: (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ) على الإضمار؛ أي: تحسسوا من يوسف واسألوا منه رد أخيه؛ لما علم أن أخاه يكون معه.
وقال عامة أهل التأويل: إنما قال لهم هذا؛ وعلم أنه في الأحياء؛ لأنه رأى ملك الموت؛ فقال له: هل قبضت روح يوسف مما قبضت من الأرواح؛ قال: لا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: رأى في المنام ملك الموت؛ فقال له ما ذكرنا؛ فعند ذلك قال هذا القول.
لكنا نقول: إنه كان عالمًا بأنه في الأحياء؛ ليس بهالك؛ لما رأى من الرؤيا وغيره؛ فعلم أنه لا يهلك إلا بعد خروج رؤياه على الصدق والحق، لكنه لم يكن يعلم أنه أين هو من قبل، ثم علم من بعدُ بالوحي عن مكانه وحاله؛ فأمر بنيه أن يأتوه؛ فينظروا إليه وإلى أخيه.
وأصل هذا: أن ما حَلَّ بيعقوب - من فوت يوسف وغيبته عنه - محنة امتحنه ربه، وبلية ابتلاه بها؛ يبتلى بذلك؛ حسرة عليه؛ ألا ترى أن يوسف لو أراد أن يُعْلِم أباه يعقوب عن مكانه وحاله؛ لقدر عليه؛ لأنه كان يعلم بمكان أبيه، وأن يعقوب لا يعلم بمكان يوسف؛ فلم يعلمه إلا بعد الأمر بالإعلام. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ).
قيل: من رحمة اللَّه.
(إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
أخبر أنه لا ييئس من رحمة اللَّه إلا القوم الكافرون؛ لأن مَنْ آمن يعلم أنه متقلب في رحمة اللَّه ونعمته فلا ييئس من رحمته، وأمَّا الكافر؛ فإنه لا يعلم رحمة اللَّه ولا تقلبه في رحمته؛ فييئس من رحمته.
فنهاهم عن الإياس؛ لما كان عندهم أنه هالك؛ حيث قالوا: (إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ)، لما قال لهم: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، وأخوه كان محبوسًا بالسرقة؛ والمحبوس لا يرد في حكمهم.
أو يقول: نهاهم؛ وإن لم يكونوا آيسين؛ ثم قوله: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وخبر عن اللَّه؛ أخبر أنه لا ييئس من رحمة اللَّه إلا القوم الكافرون، وكذلك ما بشر إبراهيم بالولد؛ حيث قالوا: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)، نهاه عن القنوط؛ ولا يحتمل أن يكون إبراهيم قانطًا عن ذلك؛ لكنه نهاه ثم أخبر فقال: