آيات من القرآن الكريم

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ

١١- لم يكن لإخبار يوسف عليه السّلام عن عام الغوث إشارة في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله، وفيه تطمين لأهل مصر بشيوع الرخاء الاقتصادي، والرفاه المعيشي، واستقرار أحوال الناس بحسب عاداتهم القديمة بعصر الأعناب، واستخراج الأدهان، وحلب الألبان لكثرتها، وكثرة النبات، وذلك دليل على رحمة الإنسان والحيوان، وهو فضل من الله وإحسان.
الفصل الثامن من قصة يوسف
- ١- طلب الملك رؤية يوسف والأمر بإخراجه من السجن وامتناعه من الخروج حتى تثبت براءته
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
الإعراب:
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول، أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني، أو ظرف مكان أي بمكان الغيب.

صفحة رقم 280

المفردات اللغوية:
وَقالَ الْمَلِكُ بعد ما جاءه الرسول بتعبير الرؤيا وأخبره بتأويلها ائْتُونِي بِهِ أي بالذي عبرها فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ أي لما جاء الرسول إلى يوسف وطلبه للخروج قالَ قاصدا إظهار براءته فَسْئَلْهُ اطلب منه أن يسأل ما بالُ النِّسْوَةِ.. أي ما حال النسوة الذي يشغل البال إِنَّ رَبِّي سيدي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي: أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه، وعلى أنه بريء مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن، فرجع فأخبر الملك فجمعهن. وإنما تريث يوسف في الخروج، وقدم سؤال النسوة ليظهر براءته، ويعلن أنه سجن ظلما، وهذا يدل على أنه ينبغي على المرء أن يجتهد في نفي التهم، ويتقي مواضعها. وإنما قال: فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ ولم يقل: فاسأله أن يفتش عن حالهن، إغراء له بالبحث وتحقيق الحال. وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب.
ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن وأمركن العظيم، والخطب: أمر يحق أن يخاطب به صاحبه إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا إليكن حاشَ لِلَّهِ تنزيه لله وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله مِنْ سُوءٍ ذنب حَصْحَصَ الْحَقُّ ظهر الحق وثبت واستقر وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: هي راودتني عن نفسي.
فأخبر يوسف بذلك فقال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أي طلب البراءة والتثبيت ليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ لم أخنه في أهله بظهر الغيب أي وراء الأستار والأبواب المغلقة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم، فأوقع فعل يَهْدِي على الكيد مبالغة. وفيه تعريض بامرأة العزيز: زليخا أو راعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته.
المناسبة:
بعد أن عاد الساقي إلى الملك يخبره بتعبير يوسف عليه السّلام للرؤيا، استحسنه، وطلب الملك رؤيته حتى يتحقق بنفسه صدق ما تشير إليه الرؤيا، إذ ليس الخبر كالعيان.
وهذا الطلب يدل على فضيلة العلم، وأن العلماء يستشارون في مهام الأمور، وأن العلم كان سببا لخلاص يوسف من المحنة الدنيوية، وهو أيضا سبب للخلاص من المحن الأخروية، لذا طلب يوسف التحقيق في التهمة المشهورة:
تهمة امرأة العزيز له.

صفحة رقم 281

التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن موقف الملك الذي استراح لتعبير يوسف رؤياه، فعرف فضل يوسف وعلمه، وسعة اطلاعه، واهتمامه بأهل بلده ورعاياه، وأدرك أن تفسير الرؤيا بما سمع كلام خطير يدل على رجاحة عقل يوسف وقوة ذكائه، فهو جدير بمقابلته شخصيا ليسمع منه الأمر.
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي أخرجوه من السجن، وأحضروه لي، كي أستمع إلى كلامه، وأتلمس مصداق الرؤيا بنفسي، فلما جاءه الرسول بذلك، امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن كان ظلما وعدوانا.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلّم موقف يوسف عليه السّلام، ونبه على فضله وشرفه، وعلو قدره وصبره،
ففي مسند أحمد والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «.. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، لأجبت الداعي».
قالَ: ارْجِعْ.. قال يوسف ردا على طلب مثوله أمام الملك: ارجع إلى سيدك، فاسأله عن حال النسوة اللاتي جرحن أيديهن إذ لا أحب أن آتيه وأنا متهم بمسألة سجنت من أجلها، واطلب من الملك أن يحقق في تلك القضية قبل أن آتيه، ليعرف حقيقة الأمر، إن ربي العالم بخفايا الأمور عليم بكيدهن وتدبيرهن وما دبرن لي من كيد.
فجمع الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطبا لهن كلهن، وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز: ما خطبكن أي ما شأنكن وخبركن حين راودتن يوسف عن نفسه يوم الضيافة، أو ما شأنكن الخطير حين دعوتن يوسف إلى ارتكاب الفاحشة؟!

صفحة رقم 282

قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ.. أجبن الملك: معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء، وهو تعبير أريد به تبرئته والتعّجب من نزاهته وعفّته، أي حاشا لله أن يكون يوسف متّهما، والله ما علمنا عليه سوءا في تاريخه الطويل.
وحينئذ قالت امرأة العزيز: الآن تبيّن الحقّ وظهر، أنا راودت يوسف عن نفسه، لا هو، فإنه استعصم وامتنع أيّما امتناع، وإنه لصادق في قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقد أرادت بذلك مكافأة يوسف على صون سمعتها، وإخفاء أمرها، وإعراضه عن شأنها. وهو اعتراف صريح من امرأة العزيز ببراءة يوسف من الذّنوب والعيوب.
ثم قالت: ذلك الاعتراف منّي بالحقّ، ليعلم يوسف في سجنه أنّي لم أخنه أثناء غيبته، أو أطعن في شرفه وطهارته وعفّته. ويجوز كما رأى الزّمخشري أن يكون ذلك الكلام كلام يوسف عليه السّلام وهو متّصل بقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ والمعنى: ذلك الأمر الذي فعلته من ردّ الرّسول والتّثبت ومطالبة الملك بالتّحقيق في أمري، حتى تظهر براءتي أمام الملك والنّاس، وليتيقّن العزيز أنّي لم أخنه في زوجته أثناء غيابه، بل تعففت عنها «١». وعقّب أبو حيان على ذلك فقال: ومن ذهب إلى أن قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ.. إلخ من كلام يوسف يحتاج إلى تكلّف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدلّ على أنه من كلام يوسف «٢». وقال الزّمخشري: كفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السّلام. والظاهر لي هو رأي أبي حيان.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وليعلم الجميع أن الله تعالى لا ينفذ ولا يسدّد كيد الخائنين، بل يبطله ويبدد أثره.

(١) الكشاف: ٢/ ١٤٢
(٢) البحر المحيط: ٥/ ٣١٧ [.....]

صفحة رقم 283

وإذا كان هذا من كلام يوسف فكأنه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانة زوجها، وتعريض بزوجها في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- دلّ رجوع الملك إلى يوسف عليه السّلام على فضيلة العلم والمعرفة التي تميّز بها يوسف عليه السّلام على جميع الكهنة والعلماء حول الملك في مصر.
٢- العلم المقرون بالعمل الصالح سبب للخلاص من المحنة الدّنيوية والأخروية، فقد نجّى الله يوسف من السّجن، وجعله من المحسنين الذين اختارهم الله لديه في الآخرة.
٣- لا بأس بانتهاز الفرصة لإثبات الحقّ والصّدق والبراءة، فقد تريّث يوسف وتمهّل عن إجابة طلب الملك له.
٤- الاعتصام بالصّبر والحلم وعزّة النّفس وصون الكرامة من أصول أخلاق الأنبياء، فإنّ يوسف تذرّع بالصّبر وحرص على إعلان براءته وعفّته، وصون سمعته في المجتمع.
ورد في الصّحيحين مرفوعا: «ولو لبثت في السّجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي».
وفي رواية: «يرحم الله أخي يوسف، لقد كان صابرا حليما، ولو لبثت في السّجن ما لبثه، أجبت الدّاعي، ولم ألتمس العذر»،
وفي رواية أحمد: «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر»
وفي رواية الطّبري: «يرحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إليّ، لخرجت سريعا، أن كان لحليما ذا أناة».
٥- الواجب شرعا عدم المبادرة إلى الاتّهام بالسّوء والطّعن بالأعراض، فإن

صفحة رقم 284

يوسف عفّ عن اتّهام النّساء بالسّوء حتى يتحقّق الملك ذاته من التّهمة. وقدّر جميل أو معروف سيدته امرأة العزيز، فلم يذكرها بسوء، وفاء لزوجها وبرّا له، ورحمة لها وسترا عليها، وعفّة القول أجدى في مستقبل الزّمان.
٦- من الخصال الحسنة: الجرأة في إعلان الحقّ، والصّراحة في إظهار الحقائق، وعدم التّردد في إنصاف الأبرياء وتصديق الأتقياء، فإن امرأة العزيز أعلنت براءة يوسف في مجتمع النّسوة أثناء الضّيافة فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وكررت اعترافها بالحقّ بعد مضي سنوات على الحادث بعد أن زجّ بيوسف في قيعان السّجون، فقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ.. ثمّ أكدّت ذلك بقولها: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي أقررت بالصدق ليعلم أنّي لم أكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وترفّعت عن الخيانة.
٧- المؤمن الصّادق هو الذي يؤثر مرضاة الله تعالى، وإعزاز دينه على أي شيء في هذا الوجود، فإن يوسف حرص على تمسّكه بدينه وبمرضاة ربّه في كلّ ظروف المحنة التي مرّ بها مع النّساء.
٨- إن مصير الخيانة والكيد الفشل وعدم تحقيق النّتائج: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ومعناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم، وإنما يبطله، ولا يسدّده، ولا ينفذه، وتكون عاقبة الكيد الفضيحة والاضمحلال

صفحة رقم 285
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية