
لكن الأمر بالنسبة ليوسف الصدّيق كان خلاف الأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
٤- كان من جملة مكايد الشيطان إنساء الناجي من السجن تذكير مولاه الملك بقصة يوسف عليه السّلام، لئلا يطلع من السجن.
٥- لبث يوسف في السجن بضع سنين، وهي إما خمس سنين، وإما سبع سنين، كما روي عن بعض المفسرين. وعلى أي حال فهي مدة طويلة، صبر فيها يوسف على مراد الله، وآثر السجن على الوقوع في معصية الزنى.
- ٢- تأويل يوسف رؤيا الملك
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)

الإعراب:
لِلرُّءْيا اللام زائدة للبيان أو لتقوية العامل، كما في آية: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٤] لأنها تزاد في المفعول به إذا تقدم على الفعل، وقد جاء أيضا زيادتها معه، وليس بمتقدم، مثل قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النمل ٢٧/ ٧٢] لكن زيادتها مع التقديم أحسن. دَأَباً منصوب على المصدر، وقرئ بسكون الهمزة وفتحها.
البلاغة:
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ استعمل صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية بين كل من سِمانٍ..
وعِجافٌ وخُضْرٍ.. ويابِساتٍ طباق.
أَضْغاثُ أَحْلامٍ شبه اختلاط الأحلام المشتملة على المحبوب والمكروه، والسّار والمحزن باختلاط الحشيش المجموع من أصناف متنوعة.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ براعة استهلال تتضمن الاستعطاف بالثناء للوصول إلى الجواب.
يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ مجاز عقلي من قبيل الإسناد إلى الزمان والمراد به الناس لأن السنين لا تأكل، وإنما يأكل الناس ما ادخروه فيها.
لمفردات اللغوية:
وَقالَ الْمَلِكُ ملك مصر وهو الريان بن الوليد إِنِّي أَرى أي رأيت سِمانٍ جمع سمينة يَأْكُلُهُنَّ يبتلعهن عِجافٌ سبع من البقر هزيلة ضعيفة، جمع عجفاء وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ جمع سنبلة وهي التي تحمل الحب الذي انعقد، واليابسات: ما آن حصاده الْمَلَأُ أشراف القوم تَعْبُرُونَ تفسرون ببيان المعنى المراد أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ بينوا لي تعبيرها، وهو الانتقال من الصور الخيالية إلى الواقع الحسي المشاهد.
أَضْغاثُ أخلاط، واحدها ضغث: وهو حزمة النبات أو مجموعة الحشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة أَحْلامٍ جمع حلم بضم اللام وتسكينها: ما يرى في النوم، وهو قد يكون واضح المعنى كأفكار اليقظة، وقد يكون غامضا مضطربا يشبه مجموعة الحزم والحشائش التي لا تناسب بينها. وإنما جمعوا الأحلام للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان والكذب والزيف وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة، أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة، وهو مقدمة ثانية للاعتذار بالجهل بتأويله.

وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي من الفتيين وهو الساقي وَادَّكَرَ أي تذكر يوسف، وفيه أبدل التاء في الأصل دالا، ثم أدغم في الدال أصله «اذتكر» بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكر يوسف بعد طائفة من الزمن مجتمعة أي مدة. فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده علم أو إلى السجن، فأتى يوسف.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي يا يوسف الكثير الصدق أو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله، وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك وأصحابه أو إلى أهل البلد إذ قيل: إن السجن لم يكن فيه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما من الرجوع.
تَزْرَعُونَ ازرعوا دَأَباً متتابعة، على عادتكم المستمرة، وهي تأويل السبع السمان فَذَرُوهُ اتركوه وادخروه فِي سُنْبُلِهِ لئلا يفسد أو يسوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين، فادرسوه.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد السبع المخصبات سَبْعٌ شِدادٌ مجدبات صعاب، وهي تأويل السبع العجاف يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن، فأسند إلى السنين على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون وتدخرون للبذر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السبع المجدبات عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ بالمطر من الغوث والإغاثة من القحط وَفِيهِ يَعْصِرُونَ الأعناب وغيرها لخصوبته. وهذه بشارة، بعد أن أوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي، أو بما جرت به السنة الإلهية على أن يوسع على عباده، بعد ما ضيق عليهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى تأويل يوسف رؤيا صاحبيه في السجن، ذكر تأويل رؤيا ملك مصر الذي كان من ملوك العرب المعروفين بالرعاة (الهكسوس) بعد أن أعلن الكهنة والعلماء وأهل الرأي عجزهم عن تأويلها، وقالوا: أضغاث أحلام، فكان هذا سببا في اتصال يوسف بالملك.
التفسير والبيان:
هذه رؤيا ملك مصر التي قدر الله أن تكون سببا لخروج يوسف عليه السّلام من السجن معززا مكرما، والقصة أن الملك هالته هذه الرؤيا وتعجب من

أمرها، وكيفية تفسيرها، فجمع الكهنة وكبار رجال دولته وأمراءه، فقص عليهم ما رأى، وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك، واعتذروا عن تأويلها بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أخلاط أحلام.
والمعنى: وقال ملك مصر: إني رأيت في منامي رؤيا أدهشتني، وهي أن سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، أكلتهن سبع بقرات عجاف هزيلات، وسبع سنبلات خضر انعقد حبها، غلبتها سبع أخر يابسات آن حصادها، فالتوت عليها.
فقال للملأ من قومه وهم الكهنة والعلماء: عبّروا على هذه الرؤيا، إن كنتم تعلمون تعبير الرؤيا، وبيان معناها الخيالي، وترجمتها إلى الواقع الحقيقي.
فقالوا: هذه أحلام مختلطة من خواطر وخيالات تتراءى للنائم في دماغه، ولا معنى لها، وتنشأ من اضطراب الهضم، وتلبّك المعدة، وتعب النفس أحيانا، ولسنا عالمين بتأويل أمثالها، فلو كانت رؤيا صحيحة، لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها.
وحينئذ تذكر الذي نجا من الموت من صاحبي يوسف في السجن، وهو الساقي، وكان الشيطان قد أنساه ما أوصاه به يوسف، من عرض أمره للملك، وكان تذكره بعد مدة من الزمان أي بعد نسيان، فقال للملك والملأ الذين جمعهم حوله: أنا أخبركم بتأويل هذا المنام، فابعثوني (وهو خطاب للملك والجمع، أو للملك وحده على سبيل التعظيم) إلى يوسف الصديق الموجود حاليا في السجن.
فبعثوه فجاء فقال: يا يوسف، أيها الرجل كثير الصدق في أقوالك وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، أفتنا في منام رآه الملك، لعل الله يجعل لك فرجا ومخرجا بسبب تأويلك رؤياه.
فذكر له يوسف النبي عليه السّلام تعبيره من غير لوم وعتاب على نسيانه

ما وصاه به، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك، فقال: مبينا لهم خطة أربع عشرة سنة: إنه يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات.
ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تكون سببا للثمرات والزروع، وهن السنبلات الخضر.
ثم أرشدهم إلى ما يفعلون في سني الخصب، فقال: مهما جنيتم في هذه السبع السنين الخصب من الغلال والزروع، فادخروه في سنبله، لئلا يأكله السوس، إلا المقدار القليل الذي تأكلونه، فادرسوه، ولا تسرفوا فيه لتنتفعوا بالباقي في السبع الشداد الصعاب، وهن السبع السنين الجدب التي تعقب هذه السنوات السبع المتواليات، وهن البقرات العجاف، اللاتي تأكل السمان لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب، وهن السنبلات اليابسات، ففي سني القحط لا تنبت الأرض شيئا، وما بذروه لا يرجع منه شيء، لهذا قال:
يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا.. أي إن أهلها يأكلون كل ما ادخرتم في تلك السنين السابقة لأجل السنين الجدباء، إلا قليلا مما تحزنون وتحرزون وتدخرون لبذور الزراعة. ويلاحظ أنه نسب الأكل للسنين وأراد به أهلها.
والخلاصة: تأول يوسف عليه السّلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين محصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة.
ثم بشرهم بمجيء عام يغاث فيه الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر، وتغل البلاد، ويعصر الناس فيه ما كانوا يعصرون عادة من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب التمر والعنب ونحوها.
وهذا الإخبار بمغيبات المستقبل من وحي الله وإلهامه، لا مجرد تعبير للرؤيا، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرؤيا بمجيء عام مبارك خصيب، كثير الخير، غزير النعم، وهو إخبار من جهة الوحي.

فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات تعبير رؤيا الملك الذي كان سببا في خروج يوسف من السجن، وقد دلت على الآتي:
١- لما دنا فرج يوسف عليه السّلام رأى الملك الأكبر: الرّيان بن الوليد رؤياه، فعرضها على الكهنة والعلماء، فاعتذروا عن تأويلها، وكان عجزهم عن التعبير سببا في إحالة الأمر إلى يوسف.
٢- كانت رؤيا الملك في آخر الأمر بشرى ورحمة ليوسف.
٣- الرؤيا نوعان: منها حق، ومنها أضغاث أحلام وهي الكاذبة، كما قال ابن عباس.
٤- في الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أوّل ما تعبر لأن القوم قالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ ولم تقع كذلك فإن يوسف فسّرها على سنّي الجدب والخصب، فكان كما عبّر، وأما حديث أبي يعلى عن أنس مرفوعا:
«الرؤيا لأول عابر» فيظهر أنه ضعيف.
وفيها دليل أيضا على فساد أن الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت.
وأما الحديث المتقدم الذي رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ والمعنى فلم تثبت صحته.
٥- إن تذكر الخير والإقدام على فعله بعد نسيان، كما حدث للناجي الذي نسي ذكر أمر يوسف للملك، مردّه إلى القضاء والقدر والتوفيق الإلهي.
٦- كان ذهاب ساقي الملك إلى يوسف في سجنه سببا في معرفة مكانه في الفضل والعلم، فخرج من السجن، كما كان تأويل الرؤيا سببا في إنقاذ أهل مصر من المجاعة مدة سبع سنوات، وهكذا فإن الأنبياء والرسل عليهم السلام رحمة

للناس جميعا، سواء في تصحيح العقيدة وتقويم الأخلاق، وتصحيح السلوك، أو في الحياة المعيشية والاقتصادية.
وقد استفيد من فعل يوسف سلامة الخطة ونجاح سياسة التخطيط، وتعليم الناس كيفية حفظ الحبوب من التسوس، وهو إرشاد زراعي رفيع المستوى.
٧- قال القرطبي: آية تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ.. أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل، ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق «١».
٨- كان إخبار يوسف عليه السّلام عن عام الإنقاذ والخصب بعد أربع عشرة سنة وحيا من الله وإلهاما له، وتلك معجزة تدل على صدق نبوته.
٩- دل قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي مما تحبسون أو تدخرون لتزرعوا، على أن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وهو يدل أيضا على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.
١٠- قال القرطبي أيضا: هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرّج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن فكيف إذا كانت آية لنبي، ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله وبين عباده «٢».
(٢) المرجع السابق: ٩/ ٢٠٤