
مَتَى وَجَبَ الْتِزَامُ أَحَدِ شَيْئَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرٌّ فَأَخَفُّهُمَا أَوْلَاهُمَا بِالتَّحَمُّلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أَمِلْ إِلَيْهِنَّ يُقَالُ: صَبَا إِلَى اللَّهْوِ يَصْبُو صَبْوًا إِذَا مَالَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْصَرِفُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا إِذَا صَرَفَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا قَالُوا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ وَقَعَ فِيهِ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالدَّاعِيَ إِلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنِ اسْتَوَيَا امْتَنَعَ الْفِعْلُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ رُجْحَانٌ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَمَرْجُوحِيَّةٌ لِلطَّرْفِ الْآخَرِ وَحُصُولُهُمَا حَالَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ حَصَلَ الرُّجْحَانُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَذَلِكَ الرُّجْحَانُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا لَذَهَبَتِ الْمَرَاتِبُ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ بَلْ هُوَ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَالصَّرْفُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ مَرْجُوحًا لِأَنَّهُ مَتَى/ صَارَ مَرْجُوحًا صَارَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ رُجْحَانٌ، فَلَوْ وَقَعَ حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ لَحَصَلَ الرُّجْحَانُ حَالَ حُصُولِ الْمَرْجُوحِيَّةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ انْصِرَافَ الْعَبْدِ عَنِ الْقَبِيحِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُرَغِّبَةِ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَنْكُوحِ وَالْمَطْعُومِ وَحَصَلَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُنَفِّرَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَوِيَتِ الدَّوَاعِي فِي الْفِعْلِ وَضَعُفَتِ الدَّوَاعِي فِي التَّرْكِ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُحْدِثَ فِي قَلْبِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّوَاعِي الْمُعَارِضَةِ النَّافِيَةِ لِدَوَاعِي الْمَعْصِيَةِ إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمُعَارِضُ لَحَصَلَ الْمُرَجِّحُ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ خَالِيًا عَمَّا يُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ وُقُوعَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ بَرَاءَةُ سَاحَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، فَاحْتَالَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْحِيَلِ حَتَّى تَحْمِلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُوَافَقَتِهَا عَلَى مُرَادِهَا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ يُوسُفُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا أَيِسَتْ مِنْهُ احْتَالَتْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ فَضَحَنِي فِي النَّاسِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ عُذْرِي، فَإِمَّا أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَخْرُجَ وَأَعْتَذِرَ وَإِمَّا أَنْ تَحْبِسَهُ كَمَا حَبَسْتَنِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي قَلْبِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْأَصْلَحَ حَبْسُهُ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ ذِكْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَتَّى تَقِلَّ الْفَضِيحَةُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لِأَنَّ الْبَدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الرَّأْيِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ/ فِي الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ بَرَاءَتُهُ بِقَدِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ، وَخَمْشُ الْوَجْهِ، وَإِلْزَامُ الْحَكَمِ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: ٢٨] وَذَكَرْنَا أَنَّهُ ظَهَرَتْ هُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الْآيَاتِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ سَكَتُوا عَنْهَا سَعْيًا فِي إِخْفَاءِ الْفَضِيحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَدا لَهُمْ فِعْلٌ وَفَاعِلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ: لَيَسْجُنُنَّهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى فِعْلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنَّ النَّحْوِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا قُلْتَ

خَرَجَ ضَرَبَ لَمْ يُفِدِ الْبَتَّةَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ سَجْنُهُ، إِلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ هَذَا الْفِعْلُ مَقَامَ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَأَقُولُ: الذَّوْقُ يَشْهَدُ بِأَنَّ جَعْلَ الْفِعْلِ مخبر عَنْهُ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ الْفِعْلُ خَبَرًا فَجَعْلُ الْخَبَرِ مُخْبَرًا عَنْهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الِاسْمُ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَائِمٌ فَقَائِمٌ اسْمٌ وَخَبَرٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ خَبَرًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُخْبَرًا عَنْهُ، بَلْ نَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: شُكُوكٌ أَحَدُهَا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: ضَرَبَ فَعَلَ فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ هُوَ ضَرَبَ، فَالْفِعْلُ صَارَ مُخْبَرًا عَنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: الْمُخْبَرُ عَنْهُ هُوَ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَهِيَ اسْمٌ فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ اسْمٌ لَا فِعْلٌ وَذَلِكَ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، بَلْ نَقُولُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِعْلٌ إِنْ كَانَ فِعْلًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ اسْمًا كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّا أَخْبَرْنَا عَنِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ فِعْلٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَفِي هَذَا الْبَابِ مَبَاحِثُ عَمِيقَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي «كُتُبِ الْمَعْقُولَاتِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْحِينُ وَقْتٌ مِنَ الزَّمَانِ غَيْرُ مَحْدُودٍ يَقَعُ عَلَى الْقَصِيرِ مِنْهُ، وَعَلَى الطَّوِيلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِلَى انْقِطَاعِ الْمَقَالَةِ وَمَا شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، ثم قيل: الحين هاهنا خَمْسُ سِنِينَ، وَقِيلَ: بَلْ سَبْعُ سِنِينَ، وَقَالَ مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشر سَنَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ بَقِيَ مَحْبُوسًا مُدَّةً طَوِيلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُفَ: ٤٥].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ فَهَهُنَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا أَرَادُوا حَبْسَهُ حَبَسُوهُ وَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ عَلَيْهِ قِيلَ: هُمَا غُلَامَانِ كَانَا لِلْمَلِكِ الْأَكْبَرِ بِمِصْرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ طَعَامِهِ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ شَرَابِهِ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ طَعَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَسُمَّهُ وَظَنَّ أَنَّ الْآخَرَ يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِمَا بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ عَرَفَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمٌ بِالتَّعْبِيرِ؟
وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُمَا عَنْ حُزْنِهِمَا وَغَمِّهِمَا فَذَكَرَا إِنَّا رَأَيْنَا فِي الْمَنَامِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ وَقَدْ أَظْهَرَ مَعْرِفَتَهُ بِأُمُورٍ مِنْهَا تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا فَعِنْدَهَا ذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ عَرَفَ أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ لِلْمَلِكِ:
الْجَوَابُ: لِقَوْلِهِ: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً [يُوسُفَ: ٤١] أَيْ مَوْلَاهُ وَلِقَوْلِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يُوسُفَ:
٤٢].
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ عَرَفَ أَنَّ أَحَدَهُمَا صَاحِبُ شَرَابِ الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ طَعَامِهِ؟
وَالْجَوَابُ: رُؤْيَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُنَاسِبُ حِرْفَتَهُ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ الْخَمْرَ وَالْآخَرَ كَأَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ وَقَعَتْ رُؤْيَةُ الْمَنَامِ؟
وَالْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ السِّجْنَ قَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي أُعَبِّرُ الْأَحْلَامَ فَقَالَ أَحَدُ الْفَتَيَيْنِ، هَلُمَّ فَلْنَخْتَبِرْ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ بِرُؤْيَا نَخْتَرِعُهَا لَهُ فَسَأَلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَا رَأَيَا شَيْئًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما كانا رأيا شيئا وإنما تحاكما ليختبرا علمه.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ كَانَا قَدْ رَأَيَا حِينَ دَخَلَا السِّجْنَ رُؤْيَا فَأَتَيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ السَّاقِي أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي بُسْتَانٍ فَإِذَا بِأَصْلِ عِنَبَةٍ حَسَنَةٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَغْصَانٍ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ عَنَاقِيدَ مِنْ عِنَبٍ فَجَنَيْتُهَا وَكَأَنَّ كَأْسَ الْمَلِكِ بِيَدِي فَعَصَرْتُهَا فِيهِ وَسَقَيْتُهَا الْمَلِكَ فَشَرِبَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ فَوْقَ رَأْسِي ثَلَاثَ سِلَالٍ فِيهَا خُبْزٌ وَأَلْوَانٌ وَأَطْعِمَةٌ وَإِذَا سِبَاعُ الطَّيْرِ تَنْهَشُ مِنْهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ عَرَفَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً رُؤْيَا الْمَنَامِ؟
الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدِ النَّوْمَ كَانَ ذِكْرُ قَوْلِهِ: أَعْصِرُ يُغْنِيهِ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِهِ أَرانِي وَالثَّانِي: دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف: ٣٦].
السُّؤَالُ السَّادِسُ: كَيْفَ يُعْقَلُ عَصْرُ الْخَمْرِ؟
الْجَوَابُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَعْصِرُ عِنَبَ خَمْرٍ، أَيِ الْعِنَبَ الَّذِي يَكُونُ عَصِيرُهُ خَمْرًا فَحُذِفَ الْمُضَافُ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تسمي الشيء باسم ما يئول إِلَيْهِ إِذَا انْكَشَفَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَلْتَبِسْ يَقُولُونَ فُلَانٌ يَطْبُخُ دِبْسًا وَهُوَ يَطْبُخُ عَصِيرًا. وَالثَّالِثُ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَهْلُ عُمَانَ يُسَمُّونَ الْعِنَبَ بِالْخَمْرِ فَوَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَنَطَقُوا بِهَا قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: مَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ.
الْجَوَابُ: تَأْوِيلُ الشَّيْءِ ما يرجع إليه وهو الذي يئول إِلَيْهِ آخِرَ ذَلِكَ الْأَمْرِ.
السُّؤَالُ الثَّامِنُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ إِنَّا نَرَاكَ تُؤْثِرُ الْإِحْسَانَ وَتَأْتِي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ. قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَعُودُ مَرْضَاهُمْ، وَيُؤْنِسُ حَزِينَهُمْ فَقَالُوا إِنَّكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ فِي حَقِّ الشُّرَكَاءِ وَالْأَصْحَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَقَالُوا إِنَّكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُوثَقُ بِمَا يَقُولُهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَفِي سَائِرِ الْأُمُورِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى عَبَّرَ لَمْ يُخْطِ كَمَا قَالَ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ
[يُوسُفَ:
١٠١].
السُّؤَالُ التَّاسِعُ: مَا حَقِيقَةُ عِلْمِ التَّعْبِيرِ؟
الْجَوَابُ: الْقُرْآنُ وَالْبُرْهَانُ يَدُلَّانِ عَلَى صِحَّتِهِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ جَوْهَرَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ بِحَيْثُ يُمَكِّنُهَا الصُّعُودَ إِلَى عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَمُطَالَعَةَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْمَانِعُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ اشْتِغَالُهَا بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَفِي وَقْتِ النَّوْمِ يَقِلُّ هَذَا التَّشَاغُلُ فَتَقْوَى عَلَى هَذِهِ الْمُطَالَعَةِ فَإِذَا وَقَعَتِ الرُّوحُ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ تَرَكَتْ آثَارًا مَخْصُوصَةً مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ الْإِدْرَاكِ الرُّوحَانِيِّ إِلَى عَالَمِ الْخَيَالِ فَالْمُعَبِّرُ يَسْتَدِلُّ بِتِلْكَ الْآثَارِ الْخَيَالِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ، وَتَفْصِيلُهُ مَذْكُورٌ فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ»، وَالشَّرِيعَةُ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مَا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَرُؤْيَا تَحْدُثُ مِنَ