
غَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا عَرَفَهُ الْعَبْدُ كَذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ فِي الْجَلَالَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَوْقَ وَصْفِ الْوَاصِفِينَ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلِهَتِ الْعُقُولُ فِي عِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُهُ إِلَهًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: السَّبَبُ فِي تَكْرِيرِ لَفْظِ النَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ، لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ الْإِظْهَارِ، وَلِأَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ يَقْتَضِي مَزِيدَ شَرَفِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ عَرَّفَ ذَاتَهُ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلنَّاسِ، مَلِكًا لِلنَّاسِ، إِلَهًا لِلنَّاسِ. ولولا أن الناس أشر مَخْلُوقَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا خَتَمَ كِتَابَهُ بِتَعْرِيفِ ذَاتِهِ بِكَوْنِهِ رَبًّا وَمَلِكًا وَإِلَهًا لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لا يجوز هاهنا مالك الناس ويجوز: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِرَبِّ النَّاسِ أَفَادَ كَوْنَهُ مَالِكًا لَهُمْ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ عَقِيبَهُ هَذَا الْمَلِكَ لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَالِكٌ وَمَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا فَهُوَ مَلِكٌ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: رَبِّ الْعالَمِينَ ثُمَّ قَالَ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التِّكْرَارِ هُنَاكَ؟ قُلْنَا اللَّفْظُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَالِكٌ لِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُنَاكَ الرَّبُّ مُضَافٌ إِلَى شَيْءٍ وَالْمَالِكُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرِيرُ، وَأَمَّا هاهنا لَوْ ذَكَرَ الْمَالِكَ لَكَانَ الرَّبُّ وَالْمَالِكُ مُضَافَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرِيرُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَيْضًا فَجَوَازُ الْقِرَاءَاتِ يَتْبَعُ النُّزُولَ لَا الْقِيَاسَ، وَقَدْ قُرِئَ مَالِكِ لَكِنْ فِي الشَّوَاذِّ.
[سورة الناس (١١٤) : آية ٤]
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الْوَسْوَاسُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ، كَالزِّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَوِسْوَاسٌ بِالْكَسْرِ كَزِلْزَالٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهَا صَنْعَتُهُ وَشُغْلُهُ الَّذِي هُوَ عَاكِفٌ عَلَيْهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هُودٍ: ٤٦] وَالْمُرَادُ ذُو الْوَسْوَاسِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْوَسْوَسَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: ٢٠] وَأَمَّا الْخَنَّاسُ فَهُوَ الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَخْنِسَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْخُنُوسِ وَهُوَ التَّأَخُّرُ كَالْعَوَّاجِ وَالنَّفَّاثَاتِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ خَنَسَ الشَّيْطَانُ وَوَلَّى، فَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ إليه.
[سورة الناس (١١٤) : آية ٥]
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي يُوَسْوِسُ يَجُوزُ فِي مَحَلِّهِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ فَالْجَرُّ عَلَى الصِّفَةِ وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى الشَّتْمِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقِفَ الْقَارِئُ عَلَى الْخَنَّاسِ وَيَبْتَدِئَ الَّذِي يُوَسْوِسُ، عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
[سورة الناس (١١٤) : آية ٦]
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجِنَّةِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَامِ: ١١٢] وَكَمَا أَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ قَدْ يُوَسْوِسُ تَارَةً وَيَخْنِسُ أُخْرَى فَشَيْطَانُ الْإِنْسِ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ كَالنَّاصِحِ الْمُشْفِقِ، فَإِنْ زَجَرَهُ السَّامِعُ يَخْنِسُ، وَيَتْرُكُ الْوَسْوَسَةَ، وَإِنْ قَبِلَ السَّامِعُ كَلَامَهُ بَالَغَ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ قَوْلُهُ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قِسْمَانِ مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ فِي: صُدُورِ النَّاسِ كَأَنَّ الْقَدْرَ

الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، يُسَمَّى إِنْسَانًا وَالْإِنْسَانُ أَيْضًا يُسَمَّى إِنْسَانًا فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِنْسَانِ وَاقِعًا عَلَى الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقِيلَ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ فَقَالُوا: أُنَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَيْضًا قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ رِجَالًا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: ٦] فَجَازَ أَيْضًا أَنْ يُسَمِّيَهُمْ هاهنا نَاسًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا الْوَسْوَاسَ الْخَنَّاسَ شَدِيدُ الْخَنْثِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِضْلَالِ الْإِنْسِ بَلْ يُضِلُّ جِنْسَهُ وَهُمُ الْجِنُّ، فَجَدِيرٌ أَنْ يَحْذَرَ الْعَاقِلُ شَرَّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ جَعْلَ الْإِنْسَانِ اسْمًا لِلْجِنْسِ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ بَعِيدٌ مِنَ اللغة لأن الجن سموا جنا لاجتنابهم وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانًا لِظُهُورِهِ مِنَ الْإِينَاسِ وَهُوَ الْإِبْصَارُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: مَنْ أَرَادَ تَقْرِيرَ هَذَا الْوَجْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أَيْ فِي صُدُورِ الناسي كقوله: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [الْقَمَرِ: ٦] وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ النَّاسِيَ، فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَنَّهُمَا هُمَا النَّوْعَانِ الْمَوْصُوفَانِ بِنِسْيَانِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنَ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَمِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ كَأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ اسْتَعَاذَ بِرَبِّهِ مِنَ الْجَمِيعِ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.
واعلم أن لهذه السُّورَةِ لَطِيفَةً أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ فِي السُّورَةِ الْأُولَى مَذْكُورٌ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ رَبُّ الْفَلَقِ، وَالْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْآفَاتِ، وَهِيَ الْغَاسِقُ وَالنَّفَّاثَاتُ وَالْحَاسِدُ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مَذْكُورٌ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ آفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْوَسْوَسَةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ الثَّنَاءَ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الْمَطْلُوبِ، فَالْمَطْلُوبُ فِي السُّورَةِ الْأُولَى سَلَامَةُ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَالْمَطْلُوبُ فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ سَلَامَةُ الدِّينِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَضَرَّةَ الدِّينِ وَإِنْ قَلَّتْ: أَعْظَمُ مِنْ مَضَارِّ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم
خاتمة الطبعالحمد لله رفيع الدرجات، المقصود بالقربات، المتمم للصالحات والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب المعجزات، والمؤيد بالآيات البينات، وعلى آله وصحبه ذوي المقامات والكرامات، والناهجين على منواله إلى يوم الممات.
وبعد فقد تم الفراغ من طبع هذا التفسير الكبير الذي هو أجل التفاسير وأعظمها وأوسعها وأغزرها مادة، وأكثرها وأعمها في الإفادة، ولا عجب فمؤلفه الإمام فخر الدين الرازي البحر الذي لا ينفر علمه، والخضم الذي لا يسبر غوره، والطود الشامخ الذي لا يوصف أممه ولا تعلى قممه، وذلك [بالمطبعة البهية المصرية] التي أسسها بالقاهرة المرحوم السيد- محمد مصطفى في سنة ١٣٠٢ هجرية، وهي ليست أقدم دار عربية للنشر فحسب بل هي أقدم مطبعة مصرية أهلية على الإطلاق ما زالت قائمة إلى الآن، وقد أخرجت للمسلمين منذ تأسيسها أعظم الكتب قدرا وأعمها فائدة وأجلها شأنا وأدقها تصحيحا وتحقيقا وإخراجا- وبوفاة مؤسس هذه المطبعة العظيمة في سنة ١٣٢٨ هجرية انتقلت ملكيتها وإدارتها إلى نجله السيد- عبد الرحمن محمد صاحب الخط الجميل، الفائق البديع، البالغ في الإتقان أعلى درجات الإحسان، والذي كتب القرآن الكريم بقلمه عدة مرات وإليه تنسب المصاحف القرآنية- فسار على منوال المغفور له والده في إدارة تلك المطبعة وفي خدمة كتاب الله العزيز وكتب التفاسير والأحاديث الشريفة فنشرها على المسلمين في أدق وضع وعلى أحسن صورة، وكان من آخر ما أخرجه فيها كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني في ثلاثة عشرة مجلدا كبيرا، وكتاب شرح صحيح البخاري للإمام الكرماني في خمسة وعشرين جزءا، وهي من أمهات كتب شرح الحديث الشريف، فنسأل الله أن يضاعف له الأجور وأن يتقبل عمله في هذا الكتاب وفي غيره/ خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعل تجارته في الدارين لن تبور- وأعلى الله شأن الإسلام ورفع قدر الأمة الإسلامية وأعمر أمصارها وأوسع أقطارها وأعز أقدارها وأكثر أنصارها وأدام نصرها ومجدها وأعلى منارها وبارك في صفحة رقم 379

أرزاقها وأهلها وخيراتها ووفق قادتها إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين وأعزازهم ونصرهم على سائر الأمم:
بجاه محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله أنه سميع مجيب؟.
محمد عبد الرحمن محمد مصطفى صاحب القرآن الكريم المطبوع على صفحة واحدة ومساعد مدير إدارة المطابع والتوريدات بالحكومة المصرية سابقا ومدير المطبعة البهية المصرية المعروفة حاليا بمطبعة ومكتبة عبد الرحمن محمد لنشر القرآن الكريم والكتب الإسلامية بميدان الجامع الأزهر بالقاهرة.