
يقول الله تعالى ذكره: قالت الرسل لها: أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون، وقضاء قضاه الله فيك وفي بعلك.
* * *
= وقوله: (رحمة الله وبركاته عليكم البيت)، يقول: رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم (١) = وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة = وقوله: (إنه حَميدٌ مجيد)، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه (٢) = (مجيد)، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم.
* * *
يقال في "فعل" منه: "مجد الرجل يمجد مجادة" إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: "مجّدته تمجيدًا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء = (وجاءته البشرى)، بإسحاق، ظلّ = (يجادلنا في قوم لوط).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
(٢) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف ٥: ٥٧٠ / ٩: ٢٩٦.

قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) يقول: ذهب عنه الخوف، (وجاءته البشرى)، بإسحاق.
١٨٣٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى)، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف، قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)، [سورة إبراهيم: ٣٩].
* * *
وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءته البشرى)، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون. (١)
* * *
وقال آخرون: بشّر بإسحاق.
* * *
وأما "الروع": فهو الخوف، يقال منه: "راعني كذا يَرُوعني روعًا" إذا خافه. ومنه قول النبي ﷺ لرجل: "كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن"؟ ومنه قول عنترة:
مَا رَاعَني إلا حَمُوَلُة أَهْلِهَا | وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (٢) |
(٢) ديوانه: ١٢٣، من معلقته المشهورة، وقبله:
إنْ كُنْتِ أَزْمْعتِ الفِرَاقَ، فإنَّما | زُمَّتْ رِكابُكُمْ بِيَوْمٍ مُظْلِمِ |

بمعمى: ما أفزعني.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الروع"، الفَرَق.
١٨٣٣٥- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
١٨٣٣٦-.... قال وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)، قال: الفَرَق.
١٨٣٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)، قال: الفَرَق.
١٨٣٣٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)، قال: ذهب عنه الخوف.
* * *
وقوله: (يجادلنا في قوم لوط)، يقول: يخاصمنا. كما:-
١٨٣٣٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يجادلنا)، يخاصمنا. (١)
١٨٣٤٠- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: (يجادلنا) يكلمنا.

وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله، إنما يسأله ويطلب إليه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط، فقول القائل: "إبراهيم لا يجادل"، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: (يجادلنا)، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: "وجاءته البشرى يجادل رسلنا"، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل".
* * *
وكان جدالُه إيَّاهُم، كما:-
١٨٣٤١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي قال، حدثنا جعفر، عن سعيد: (يجادلنا في قوم لوط)، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه.
١٨٣٤٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
١٨٣٤٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:

(يجادلنا في قوم لوط)، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا: لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا: لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد.
١٨٣٤٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يجادلنا في قوم لوط)، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة! قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير = قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك.
١٨٣٤٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى)، قال: ما خطبُكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره: (يجادلنا في قوم لوط). فقالت الملائكة: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنَّه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
١٨٣٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى)، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين

جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا: ، لا! قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا؟ قالوا: لا! قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا، (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا)، يدفع به عنهم العذاب = (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [سورة العنكبوت: ٣٢]، (قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
١٨٣٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.
١٨٣٤٨- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا (لما ذهب عن إبراهيم الروع)، إلى آخر الآية قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي، ولا خمسين! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني! قال الله عز وجل: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الذاريات: ٣٦]، أي لوطًا وابنتيه، قال: فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة الذاريات: ٣٧]، وقال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط). (١)
* * *
و" أبو المغيرة "، هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، مضى مرارا، منها: ١٣١٠٨.
و" صفوان " هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، مضى مرارًا، منها: ١٣١٠٨.
" وأبو المثني " كأنه يعني: مسلم بن المثني الكوفي المؤذن "، روى عن ابن عمر، مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٢٥٦، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ١٩٥. وأما " أبو الحبيل الأشجعي "، فلست أجد من يسمى هكذا، وظني أنه قد وقع في هذا الإسناد خطأ، فصوابه عندي: " قال حدثنا أبو المثني مسلم، والحسيل الأشجعي".
" والحسيل الأشجعي "، فيما أرجح: " الحسيل بن عبد الرحمن الأشجعي "، ويقال أيضًا: " حسين "، روى عن سعد بن أبي وقاص، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٥٨. هذا، وفي النفس شيء من حقيقة هذا الإسناد، والله أعلم.

والعرب لا تكاد تَتَلقَّى "لمَّا" إذا وليها فعل ماض إلا بماض، يقولون: "لما قام قمت"، ولا يكادون يقولون: "لما قام أقوم". وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل "الجدال" "والخصومة" والقتال، فيقولون في ذلك: "لما لقيته أقاتله"، بمعنى: جعلت أقاتله.
* * *
وقوله: (إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب)، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب، (١) متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره = (منيب)، رَجَّاع إلى طاعته، كما:-
١٨٣٤٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (أوّاه منيب)، قال: القانت: الرَّجاع.
* * *
وقد بينا معنى "الأوّاه" فيما مضى، باختلاف المختلفين، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول، بما أغنى عن إعادته. (٢)
(٢) انظر تفسير " الأواه " فيما سلف ١٤: ٥٢٣ - ٥٣٦.