
فضل الله وعلمه وقدرته
[سورة هود (١١) : الآيات ٦ الى ٧]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
المفردات اللغوية:
وَما مِنْ دَابَّةٍ: مِنْ: زائدة، والدّابة في اللغة: كل ما يدبّ على الأرض، زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه، وإطلاق الدّابة على الخيل والبغال والحمير إطلاق عرفي. رِزْقُها غذاؤها ومعاشها، لتكفله إياها تفضّلا ورحمة. وإنما أتى بلفظ الوجوب بهذا التّعبير تحقيقا لوصوله وضمانه وحملا على التّوكل فيه. مُسْتَقَرَّها مكانها من الأرض ومسكنها. وَمُسْتَوْدَعَها ما كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة، والمراد بالمستقر والمستودع: أماكن الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلّ مما ذكر، أي كلّ واحد من الدواب وأحوالها ورزقها ومستقرّها ومستودعها مذكور في اللوح المحفوظ، مكتوب فيه مبيّن، والمراد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها، وكونه قادرا على الممكنات بأسرها، لتقرير التوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي وكان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السّموات والأرض. وليس المعنى على سبيل كون أحدهما ملتصقا بالآخر، وإنما كقوله: السماء على الأرض. والماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. والعرش: مركز التنظيم للملك ومصدر التدبير، وهو أعظم من السموات والأرض.
لِيَبْلُوَكُمْ متعلّق بخلق، أي خلق ذلك لحكمة بالغة هي أن يعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم المختبر لأوضاعكم كيف تعملون. والابتلاء: الاختبار والامتحان. أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أطوع لله، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، وأما أعمال الكافرين فتتفاوت إلى حسن

وقبيح. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما هذا القرآن الناطق بالبعث، والذي تقوله يا محمد إلا سحر، أي تخييل وتمويه، مُبِينٌ أي بيّن ظاهر البطلان. ويجوز تضمين قُلْتَ معنى ذكرت. ومعنى قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر، تشبيها له به.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أردفه بما يدلّ على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل شيء، فهو الخالق والرّازق والعالم بأحوال البشر، والباعث لهم بعد الموت، فالبعث واقع لا محالة.
التفسير والبيان:
ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجوّ إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها، المعدّ لطعامها بعد البحث والحركة والعمل، ويعلم مستقرّها ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرّها، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها، ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام وأيام الحياة والممات.
وكل ما ذكر من كلّ الدّواب وأرزاقها ومستقرّها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق.
وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة عَلَى المفيدة للوجوب تفضّلا منه ورحمة، إلا أن الرّزق بمقتضى سنّته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات، أي أن الحصول على الرّزق مرتبط بالسّعي والعمل، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق، وهدايتهم إلى الطّلب والتّحصيل، كما قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٥٠].

ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام ٦/ ٣٨]، وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام ٦/ ٥٩].
وبعد أن أثبت تعالى بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات، أثبت بكونه خالقا السموات والأرض كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وفي الحقيقة كل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته، فقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ...
أي أنه تعالى يخبر عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق أو أبدع وكوّن السموات والأرض في ستة أيام من أيام الله في الخلق والتكوين، لا كأيامنا الحالية، وهو الظاهر بدليل قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج ٢٢/ ٤٧] وقوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج ٧٠/ ٤]. ويقدر علماء الفلك اليوم من أيام التكوين بألوف الألوف من سنوات الدنيا.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ العرش: أعظم المخلوقات، ولا نعلم حقيقته وإنما نؤمن به كما أخبر عنه تعالى، وأما استواؤه عليه، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما روي عن أم سلمة رضي الله عنها ومالك وربيعة. وهذه الآية تدل على كيفية بدء الخلق قبل أن يخلق الله السموات والأرض، وعلى أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض، وأن العرش كان قبل أن يخلق شيئا، وأن ما تحت العرش هو الماء أصل المادة الحية، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً، فَفَتَقْناهُما، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ

[الأنبياء ٢١/ ٣٠] وهذا ما يسميه علماء الفلك بنظرية السديم، ويعبر عنها القرآن بالدخان، أو الماء أو متن الريح.
ثم ذكر تعالى علة الخلق العجيب بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ولم يخلق ذلك عبثا، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات ٥١/ ٥٦] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥].
والتكليف بالعبادة والطاعة واجتناب المعاصي للاختبار والامتحان، ومعرفة الأحسن عملا: وهو العمل الخالص لله عز وجل، القائم على أساس شريعة الله، فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين حبط وبطل، فمن شكر وأطاع أثابه الله، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال:
لِيَبْلُوَكُمْ أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم، كيف تعملون.
وبما أن للابتلاء والاختبار ثمرة، فلا بدّ من حصول الحشر والنشر، المقتضي تخصيص المحسن بالرحمة والثواب، وتخصيص المسيء بالعقاب، ولا بد للعاقل من الاعتراف بالمعاد والقيامة، لذا قال تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ....
والمعنى ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت، وذكرت ذلك للمشركين، لقال الكافرون: هذا سحر، أي غرور باطل لأن السحر في مفهومهم باطل. ومعنى الجملة: ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تكفل الله بأرزاق المخلوقات، وضمنها لهم تفضلا من الله تعالى لهم، ورحمة بهم. وهذا دليل على اتصافه تعالى بالعدل والرحمة. ولكن الرزق مرتبط بالسعي والكسب والعمل، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك ٦٧/ ١٥].
٢- علم الله عز وجل محيط شامل بكل مخلوقات الأرض ودوابها البرية والبحرية والجوية، بدءا من وجود مادتها في الأصلاب والأرحام، إلى ظهورها في ساحة الحياة الحركية، إلى تنقلاتها وتحركاتها ومسيرها حيث تأوي إليه، وإلى الموضع الذي تموت فيه فتدفن.
٣- الله خالق السموات والأرض وما بينهما من كائنات حية، وهاتان الآيتان: وَما مِنْ دَابَّةٍ ووَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ تدلان على كمال علم الله تعالى وكمال قدرته.
٤- العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء. والله تعالى أمسك الماء لا على قرار، والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات، من غير دعامة تحته، ولا علاقة فوقه.
٥- الله خلق السموات لابتلاء واختبار المكلف، وهذا يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكبير لمصلحة المكلفين.
٦- الواجب قطعا وعقلا حصول الحشر والنشر، والاعتراف بالمعاد والقيامة، لإقامة العدل بين الخلائق، وللجزاء الذي يميز بين المحسنين والمسيئين، فيجازى المحسن بالثواب والرحمة، والمسيء بالعقاب والعذاب.