
ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا.
قوله: «جَحَدُوا» جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها، و «جَحَدَ» يتعدَّى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى «كَفَر»، فيُعدَّى بحرفه، كما ضمَّن «كَفَر» معنى «جَحَدَ» فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك: «كَفَرُوا ربَّهُمْ».
وقيل: إنَّ «كَفَر» ك «شَكَر» في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى.
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ.
الأولى: قوله: ﴿جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أي: جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ.
والثانية: قوله: ﴿وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ ومعناه: أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
والثالثة: قوله: ﴿واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ والمعنى: أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [المؤمنون: ٣٣].
وتقدَّم اشتقاقُ «الجبّار» [المائدة: ٢٢]. والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند: المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم: «عَنَدَ يَعْنِد» إذا حاد

عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب. ومنه «عندي» الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب، من قولك: عندي كذا، أي: في جانبي.
ثم قال: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً﴾ أي: أردفُوا لعنة تلحقهم، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة. واللعنة: هي الإبعادُ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ.
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الاحوال فقال: ﴿ألاا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ﴾ أي: كفروا بربهم فحذف الباء. وقيل: هو من باب حذف المضافِ، أي كفروا نعمة ربِّهم.
ثم قال: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ قيل: بُعْداً من رحمةِ الله، وقيل: هلاكاً. وللبعد معنيان:
أحدهما: ضدَّ القربِ، يقال منه: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً.
والآخر: بمعنى الهلاك فيقال منه: بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً.
فإن قيل: اللعن هو البُعْدُ، فلمَّا قال: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة﴾ فما فائدةُ قوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ ؟.
فالجواب: كانوا عاديَيْن.
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله ﴿أَهْلَكَ عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠].
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ.
وقيل: المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد.