آيات من القرآن الكريم

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ

بِسَلامٍ مِنَّا
قَالَ: أُهْبِطُوا وَاللَّهُ عَنْهُمْ رَاضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: دَخَلَ فِي ذَلِكَ السَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ: وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يُولَدُ، أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَاتُ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يَعْنِي: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ يعني العرب مِنْ قَبْلِ هذا القرآن.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٦٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
قَوْلُهُ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً مَعْطُوفٌ عَلَى وَأَرْسَلْنَا نُوحًا أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عاد أخاهم أي:
واحدا منهم، وهودا عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَوْمُ عَادٍ كَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقِيلَ:
هُمْ عَادٌ الْأُولَى وَعَادٌ الْأُخْرَى، فَهَؤُلَاءِ هُمْ عَادٌ الْأُولَى، وَعَادٌ الْأُخْرَى: هُمْ شَدَّادُ وَلُقْمَانُ وَقَوْمُهُمَا الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ «١»، وَأَصْلُ عَادٍ: اسْمُ رَجُلٍ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَتَمِيمٍ وَبَكْرٍ وَنَحْوِهِمَا: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قُرِئَ غَيْرُهُ بِالْجَرِّ عَلَى اللَّفْظِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى مَحَلِّ مِنْ إِلَهٍ، وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ:
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أَيْ: مَا أَنْتُمْ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ إِلَّا كَاذِبُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ فقال:
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أَيْ: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَجْرًا عَلَى مَا أُبَلِّغُهُ إِلَيْكُمْ، وَأَنْصَحُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَضْمُونِ هَذَا الْكَلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ: مَا أَجْرِيَ الَّذِي أَطْلُبُ إِلَّا مِنَ الَّذِي فَطَرَنِي، أَيْ:
خَلَقَنِي فَهُوَ الَّذِي يُثِيبُنِي عَلَى ذَلِكَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ أَجْرَ النَّاصِحِينَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قِيلَ: إنما

(١). الفجر: ٧.

صفحة رقم 572

قال فيما تقدّم في قصة نوح: مالا، وَهُنَا قَالَ: أَجْرًا: لِذِكْرِ الْخَزَائِنِ بَعْدَهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَلَفْظُ الْمَالِ بِهَا أَلْيَقُ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْمَعْنَى: اطْلُبُوا مَغْفِرَتَهُ لِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، ثُمَّ تَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمِثْلِ هَذَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْخَيْرِ الْعَاجِلِ، فَقَالَ يُرْسِلِ السَّماءَ أَيِ: الْمَطَرَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أَيْ: كَثِيرَ الدُّرُورِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، دَرَّتِ السَّمَاءُ تُدِرُّ وَتَدُرُّ فَهِيَ مِدْرَارٌ، وَكَانَ قَوْمُ هُودٍ أَهْلَ بَسَاتِينَ وَزَرْعٍ وَعِمَارَةٍ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمُ الرِّمَالَ الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يُرْسِلِ، أَيْ: شِدَّةً مُضَافَةً إِلَى شِدَّتِكُمْ، أَوْ: خِصْبًا إِلَى خِصْبِكُمْ، أَوْ:
عِزًّا إِلَى عِزِّكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى يَزِدْكُمْ قُوَّةً فِي النِّعَمِ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ أَيْ: لَا تُعْرِضُوا عَمَّا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَتُقِيمُوا عَلَى الْكُفْرِ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، وَالْإِجْرَامُ: الْآثَامُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَجَابَهُ قَوْمُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ جَهَالَتِهِمْ، وَعَظِيمِ غَبَاوَتِهِمْ، ف قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أَيْ: بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ نَعْمَلُ عَلَيْهَا، وَنُؤْمِنُ لَكَ بِهَا غير معترفين بما جاءهم به مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَبَرَاهِينِهِ عِنَادًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا الَّتِي نَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَعْنَى عَنْ قَوْلِكَ صَادِرِينَ عَنْ قَوْلِكَ، فَالظَّرْفُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِمُصَدِّقِينَ فِي شَيْءٍ مِمَّا جِئْتَ بِهِ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أَيْ: مَا نَقُولُ إِلَّا أَنَّهُ أَصَابَكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا الَّتِي تَعِيبُهَا وَتُسَفِّهُ رَأْيَنَا فِي عِبَادَتِهَا بِسُوءٍ: بِجُنُونٍ، حَتَّى نَشَأَ عَنْ جُنُونِكَ مَا تَقُولُهُ لَنَا وَتَكَرِّرُهُ عَلَيْنَا مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهَا، يُقَالُ عَرَاهُ الْأَمْرُ وَاعْتَرَاهُ: إِذَا أَلَمَّ بِهِ، فَأَجَابَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ وَعَلَى وُثُوقِهِ بِرَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شيء مما يرده الْكُفَّارُ بِهِ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ فَ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنْتُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ دُونِهِ أَيْ: مِنْ إِشْرَاكِكِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِ سُلْطَانًا فَكِيدُونِي جَمِيعاً أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ إِنْ كَانَتْ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِي وَأَنَّهَا اعترتني بسوء ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أَيْ: لَا تُمْهِلُونِي، بَلْ عَاجِلُونِي وَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَفِي هَذَا مِنْ إِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ وَبِأَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مَا يَصُكُّ مَسَامِعَهُمْ، وَيُوَضِّحُ عَجْزَهُمْ وَعَدَمَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى شَيْءٍ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَهُوَ يَعْصِمُنِي مِنْ كَيْدِكُمْ، وَإِنْ بَلَغْتُمْ فِي تَطَلُّبِ وُجُوهِ الْإِضْرَارِ بِي كُلَّ مَبْلَغٍ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ، وَثِقَتَهُ بِحِفْظِهِ وَكَلَاءَتِهِ وَصَفَهُ بِمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَالتَّفْوِيضَ إِلَيْهِ مِنِ اشْتِمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْجَمِيعِ، وَأَنَّ نَاصِيَةَ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ بِيَدِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِغَايَةِ التَّسْخِيرِ وَنِهَايَةِ التَّذْلِيلِ، وَكَانُوا إِذَا أَسَرُوا الْأَسِيرَ وَأَرَادُوا إِطْلَاقَهُ، وَالْمَنَّ عَلَيْهِ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَهْرِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى آخذ بناصيتها: مالكها والقادر عليها، وقال القتبي: قَاهِرُهَا لِأَنَّ مَنْ أَخَذْتَ بِنَاصِيَتِهِ فَقَدْ قَهَرْتَهُ، وَالنَّاصِيَةُ قُصَاصُ الشَّعْرِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، ثُمَّ عَلَّلَ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: هُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَلَا يَكَادُ يُسَلِّطُكُمْ عَلَيَّ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: تَتَوَلَّوْا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْمَعْنَى فَإِنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِجَابَةِ، وَالتَّصْمِيمِ عَلَى مَا أَنْتَمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ لَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا ذَلِكَ، وَقَدْ لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ الْوَعِيدِ بِالْهَلَاكِ، أَيْ:

صفحة رقم 573

يَسْتَخْلِفُ فِي دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ قَوْمًا آخَرِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَيَسْتَخْلِفُ بِالْجَزْمِ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أَيْ: بِتَوَلِّيكُمْ، وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الضَّرَرِ وَلَا حَقِيرٍ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أَيْ: رَقِيبٌ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ بحفظه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قِيلَ: وَعَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِكُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ فَهُوَ يَحْفَظُنِي مِنْ أَنْ تَنَالُونِي بِسُوءٍ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أَيْ: عَذَابُنَا الَّذِي هُوَ إِهْلَاكُ عَادٍ نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
أَيْ: بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ كَائِنَةٍ مِنَّا لِأَنَّهُ لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هِيَ الْإِيمَانُ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أَيْ: شَدِيدٍ، قيل: وَهُوَ السَّمُومُ الَّتِي كَانَتْ تَدْخُلُ أُنُوفَهُمْ وَتِلْكَ عادٌ مبتدأ وخبر، وأنت الْإِشَارَةَ اعْتِبَارًا بِالْقَبِيلَةِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ مِنَ العرب من لا يصرف عاد وَيَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أَيْ: كَفَرُوا بِهَا وَكَذَّبُوهَا وَأَنْكَرُوا الْمُعْجِزَاتِ وَعَصَوْا رُسُلَهُ أَيْ: هُودًا وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ رَسُولٌ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ هُنَا لِأَنَّ مِنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، أَوْ كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مُتَعَدِّدِينَ لَكَذَّبُوهُمْ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وَالْعَنِيدُ: الطَّاغِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُ لَهُ. قال أبو عبيدة: العنيد والعنود وَالْعَانِدُ وَالْمُعَانِدُ، وَهُوَ الْمُعَارِضُ بِالْخِلَافِ مِنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعِرْقِ الَّذِي
يَتَفَجَّرُ بِالدَّمِ عَانِدٌ. قَالَ الرَّاجِزُ:
إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ الْعُنَّدَا
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أَيْ: أُلْحِقُوهَا، وَهِيَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالطَّرْدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهَا لَازِمَةٌ لَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ مَا دَامُوا في الدنيا وَأتبعوها يَوْمَ الْقِيامَةِ فَلُعِنُوا هُنَالِكَ كَمَا لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَيْ: بِرَبِّهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، يُقَالُ: كَفَرْتُهُ، وَكَفَرَتُ بِهِ: مِثْلَ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ أَيْ: لَا زَالُوا مُبْعَدِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْبُعْدُ:
الْهَلَاكُ، وَالْبُعْدُ: التَّبَاعُدُ مِنَ الْخَيْرِ، يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا: إِذَا تَأَخَّرَ وَتَبَاعَدَ، وَبَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا: إِذَا هَلَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لَا يَبْعَدَنَّ قَوْمَيِ الَّذِينَ هُمْ سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَا تَبْعُدَنَّ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا بِهِ الْحَالُ زَائِلُ
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا كَانَ يَنْفَعُنِي مَقَالُ نِسَائِهِمْ وَقُتِلْتُ دُونَ رِجَالِهِمْ لَا تَبْعَدِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الدُّعَاءِ بِالْهَلَاكِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ: إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي

صفحة رقم 574
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني
الناشر
دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
سنة النشر
1414
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية