آيات من القرآن الكريم

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

قصة هود عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٦٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

صفحة رقم 86

الإعراب:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أَخاهُمْ منصوب بفعل مقدر، أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وغَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور، وقرئ بالجر صفة على اللفظ.
مِدْراراً حال من السَّماءَ، والعامل فيه يُرْسِلِ. والأصل في مدرار أن يكون مدرارة، ولكنهم يحذفون هاء التأنيث عادة من مفعال كامرأة معطار، ومن مفعيل كامرأة معطير، ومن فاعل كامرأة طالق وحائض. عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في تاركي. ما مِنْ دَابَّةٍ في موضع رفع بالابتداء. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا إن: حرف نفي بمعنى ما، أي ما نقول إلا هذه المقالة، فالاستثناء من المصدر الذي دل عليه الفعل، مثل أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى [الصافات ٣٧/ ٥٩] فموتتنا مستثنى من أنواع الموت الذي دل عليها قوله: بِمَيِّتِينَ.
فقد ذكر الفعل ويستثني من مدلوله، كما يستثني من الظرف والحال، مثال الأول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ [يونس ١٠/ ٤٥] ساعَةً: مستثنى مما دل عليه لَمْ يَلْبَثُوا، أي كأن لم يلبثوا في الأوقات إلا ساعة من النهار ومثال الثاني: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا متمسكين بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران ٣/ ١١٢] أي ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل من الله، أي عهد من الله. وَتِلْكَ عادٌ مبتدأ وخبر، وبُعْداً منصوب بفعل مقدر، أي أن المصدر قائم مقام فعله.
البلاغة:
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً عبر بالسماء عن المطر من قبيل المجاز المرسل، لنزوله من السماء، ومدرار: للمبالغة.
فَكِيدُونِي جَمِيعاً أمر بمعنى التعجيز.
ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها استعارة تمثيلية، شبه الخلق وهم في قبضة الله وملكه بمن يقود دابة بناصيتها، فهي مقدورة له.
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ استعارة، فإنه استعار الطريق المستقيم للدلالة على كمال العدل.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا الأمر كناية عن العذاب.
نَجَّيْنا هُوداً.. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فيه إطناب، لتكرار لفظ الإنجاء بقصد بيان أن الأمر شديد عظيم الأهوال.
وَعَصَوْا رُسُلَهُ المراد عصوا رسولهم هودا، من قبيل المجاز المرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.

صفحة رقم 87

أَلا إِنَّ عاداً.. أَلا بُعْداً لِعادٍ تكرار حرف التنبيه، وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم.
المفردات اللغوية:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم من القبيلة وواحدا منهم، وهو عطف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهُوداً: عطف بيان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده.
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مِنْ: زائدة للتأكيد. إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم في عبادتكم الأوثان. إِلَّا مُفْتَرُونَ كاذبون على الله باتخاذ الأوثان شركاء لله وجعلها شفعاء عند الله تعالى.
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ الضمير في عَلَيْهِ عائد على الدعاء إلى الله وتوحيده. إِنْ أَجْرِيَ ما أجري. فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة- فطرة التوحيد لله والمقصود من الآية بيان إخلاصه في النصيحة، فإنها لا تفيد ما دامت مشوبة بالمطامع.
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أخلصوا التوبة من المعاصي والكفر لله، وارجعوا إليه بالطاعة، أي اطلبوا المغفرة من الله بالإيمان، ثم توسلوا إليها بالتوبة، ثم لا يكون التبري من الغير إلا بالإيمان بالله والرغبة فيما عنده. يُرْسِلِ السَّماءَ المطر، وكانوا قد منعوه واشتدت حاجتهم إليه لأنهم كانوا أصحاب زروع. مِدْراراً كثير الدر. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي يزدكم قوة مع قوتكم بالمال والولد، أو يضاعف قوتكم بالتناسل والأموال. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ مشركين.
بِبَيِّنَةٍ ببرهان على قولك، وبحجة تدل على صحة دعواك، وهذا لفرط عنادهم، وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم. عَنْ قَوْلِكَ صادرين عن قولك أو لقولك. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإجابة والتصديق.
إِنْ نَقُولُ ما نقول في شأنك. اعْتَراكَ أصابك. بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون، لسبك إياها وصدك عنها، فأنت تهذي وتتكلم بالخرافات، والجملة مفعول القول، وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. فَكِيدُونِي اجتمعوا على الكيد لي في إهلاكي من غير إنظار. جَمِيعاً أنتم وأوثانكم. ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ تمهلون. والمراد بيان عجزهم عن إلحاق الضرر به ليعلموا أن آلهتهم جماد لا تضر ولا تنفع. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي أي وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني، فإني متوكل على الله، واثق برعايته.
ما مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب على الأرض. إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا وهو مالك لها، قادر عليها، يصرفها على ما يريد بها، فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه، والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك.

صفحة رقم 88

وخص الناصية بالذكر لأن من أخذ بناصيته يكون في غاية الذل. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على الحق والعدل، لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا وتتولوا، وقد حذفت فيه إحدى التاءين. فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أي فقد أديت ما علي من الإبلاغ، وإلزام الحجة، فلا تفريط مني ولا عذر لكم، فقد أبلغتكم رسالة ربي. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم، بأن الله يهلكهم، ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم. وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتوليكم وإشراككم. حَفِيظٌ رقيب.
أَمْرُنا عذابا أو أمرنا بالعذاب. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ هداية، وكانوا أربعة آلاف. غَلِيظٍ شديد، وهذا تعريض بأنهم كما عذبوا في الدنيا بريح السموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الشديد.
وَتِلْكَ عادٌ أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم، أي فانظروا آثارهم في الأرض. جَحَدُوا كفروا. وَعَصَوْا رُسُلَهُ جمع الرسل لأن من عصى رسولا، عصى جميع الرسل لاشتراكهم في أصل ما جاؤوا به وهو التوحيد. وَاتَّبَعُوا أي السفلة. أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي معاند للحق، يعني كبراءهم ورؤساءهم الطاغين، والمعنى:
عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، في الدنيا من الناس، ويوم القيامة لعنة على رؤوس الناس، توقعهم في العذاب. كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه أو كفروا نعمه، أو كفروا به، فحذف الجار. أَلا بُعْداً لِعادٍ أي من رحمة الله، وهو دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم من العذاب، بسبب أفعالهم.
قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد، لتمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وقد ذكرت هذه القصة في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر. وكان هود أول من تكلم بالعربية من ذرية نوح.
وفي إيراد هذه القصة هنا شبه بقصة نوح مع قومه، ففيها تبليغ هود الدعوة والتكاليف إلى قومه، وردهم عليه، وما انتهت به القصة من إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين.

صفحة رقم 89

التفسير والبيان:
دعا هود قومه إلى أنواع من التكاليف:
النوع الأول- دعوتهم إلى التوحيد، في قوله تعالى: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ أي وكما أرسلنا نوحا، أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، والمراد أخا لهم في النسب والقبيلة، لا في الدين لأن هودا كان رجلا من قبيلة عاد، فيقال للرجل: يا أخا العرب، والمراد رجل منهم، وكانت هذه القبيلة قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف (شمال حضرموت) وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأصحاب زرع وضرع.
إنه أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها، فقال لهم: آمركم بعبادة الله الذي لا إله غيره، ولا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما، ولا تشركوا به شيئا، مالكم من إله غيره، خلقكم ورزقكم، وأمدكم بالنعم الوفيرة، فما أنتم إلا مفترون الكذب على الله باتخاذكم الشركاء لله، ووصفكم إياهم بأنهم شفعاء.
ويا قوم، لا أطلب على ما أدعوكم عليه من عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة فطرة التوحيد، أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، وتقدرون ما يقال لكم من نصح قائم على الإخلاص والأمانة، وتعلمون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام.
والنوع الثاني- من التكاليف التي ذكرها هود لقومه: الاستغفار والتوبة فقال: ويا قوم، اطلبوا المغفرة من الله على الشرك والكفر والذنوب السابقة، وأخلصوا التوبة له، وعما تستقبلون، فإذا استغفرتم وتبتم يرسل الله

صفحة رقم 90

عليكم مطرا كثيرا متتابعا، وقد كانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد أن منعوه لأنهم أصحاب زروع وبساتين، ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد، وعزا إلى عزكم، وقد كانوا أشداء أقوياء يهمهم التفوق والغلبة على الناس، والاعتزاز بالقوة، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف ٧/ ٦٩] وقال سبحانه:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٢٨- ١٣٣] وقال عز وجل: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت ٤١/ ١٥].
وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ولا تعرضوا عني وعن دعوتي وعما أرغبكم فيه، مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
وفائدة الاستغفار المذكورة في الآية، لها ما يؤيدها في السنة النبوية، ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس: «من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب».
وبعد أن حكى تعالى ما ذكره هود لقومه، حكى ما ذكره القوم له:
قالُوا: يا هُودُ.. أي قالوا لنبيهم: ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه أنك رسول من عند الله، ولن نترك عبادة آلهتنا بمجرد قولك: اتركوهم، وما نحن لك بمصدقين، وما نظن إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب شتمك لها ونهيك عن عبادتها وعيبك لها.
فكان جوابهم متضمنا أربعة أشياء كلها عناد وحماقة واستكبار، وهي المطالبة بالبينة والإصرار على عبادة الآلهة، مع أنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر وعدم التصديق برسالة هود مما يدل

صفحة رقم 91

على الإصرار والتقليد والجحود وإفساد عقله وجعله مجنونا بواسطة الآلهة.
فقال لهم هود: أشهد الله على نفسي واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام، ولا يعني هذا أنهم كانوا أهلا للشهادة، ولكنه نهاية للتقرير، أي لتعرفوا، ولم يقل: إني أشهد الله وأشهدكم، لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فإن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم.
وإذا كنت بريئا من جميع الأنداد والأصنام، أي مما تشركون من دون الله، فإني أعلن ذلك صراحة، فاجمعوا كل ما تستطيعون من أنواع الكيد لي، جميعا أي أنتم وآلهتكم، ولا تمهلوني طرفة عين، إني فوضت أمري كله لله ربي وربكم، ووكلته في حفظي، فهو على كل شيء قدير.
فما من دابة تدب على الأرض أو السماء إلا هي تحت سلطان الله وقهره فهو مصرف أمرها ومسخرها، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، إن ربي على الحق والعدل.
وقد تضمن جوابه الدال على التحدي والمعجزة الباهرة وقلة المبالاة بهم عدة أمور هي: البراءة من الشرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم، وطلبه المكايدة له، وإظهار قلة المبالاة بهم وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم. وهذا موقف مشابه تماما لموقف نوح في قوله السابق: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس ١٠/ ٧١] وقوله: قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ، فَلا تُنْظِرُونِ [الأعراف ٧/ ١٩٥].
فَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي فإن تتولوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم

صفحة رقم 92

وحده لا شريك له، فقد بلغتكم رسالة ربي التي بعثني بها إليكم، ولا عتاب علي على تفريط في التبليغ، وكنتم محجوجين بأن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم، فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. ثم استأنف كلاما جديدا فقال: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين، يخلفونكم في دياركم وأموالكم ويكونون أطوع لله منكم، ولا تضرونه شيئا بتوليكم وكفركم، بل يعود وبال ذلك عليكم، وما تضرون إلا أنفسكم، إن ربي على كل شيء رقيب، مهيمن عليه، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
ثم ذكر الله تعالى العذاب وآثاره وعاقبة أمر هود وقومه، فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي ولما حان وقت نزول أمرنا بالعذاب، ووقع عذابنا، وهو الريح العقيم، نجينا هودا والمؤمنين معه من عذاب شديد شاق ثقيل، برحمة من لدنا ولطف منا، وأهلكنا قومه عن آخرهم.
وسبب ذلك العقاب أن عادا كفروا بآيات ربهم وحججه، وعصوا رسله، وقد جمع الرسل والمقصود رسولهم هودا لأن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، فهم كفروا بهود، فصار كفرهم كفرا بجميع الأنبياء، واتّبعوا أمر رؤسائهم الجبابرة الطغاة المعاندين.
فلهذا لحقت بهم لعنة الله في الدنيا، ولعنة عباده المؤمنين كلما ذكروا، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق: ألا إن عادا كفروا بربهم وبنعمه، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدمار والبعد من الرحمة.
والخلاصة: إنه تعالى جمع أوصاف عاد في ثلاثة: جحود دلائل المعجزات على الصدق، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم، وعصيان رسولهم، ومن عصى رسولا واحدا، فقد عصى جميع الرسل، لقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ

صفحة رقم 93

مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة ٢/ ٢٨٥]، وتقليد القوم رؤساءهم، ثم ذكر تعالى عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة وهي مصاحبة اللعن لهم في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة:
الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، ثم بين تعالى السبب الأصلي في استحقاق تلك الأحوال فقال: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي جحدوه، أو كفروا بربهم على حذف الباء، أو نعمة ربهم، على حذف المضاف. وفائدة قوله: أَلا بُعْداً لِعادٍ بعد قوله: وَأُتْبِعُوا.. الدلالة على غاية التأكيد. وفائدة قوله لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ تعيين عاد القديمة، تمييزا لهم عن عاد التي هي إرم ذات العماد، فقصد به إزالة الاشتباه، أو لمزيد التأكيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة هود مع قومه على ما يلي:
١- حصر هود عليه السلام دعوته في نوعين من التكاليف هما: الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، والاستغفار ثم التوبة، والفرق بينهما أن الاستغفار:
طلب المغفرة وهو المطلوب بالذات، والتوبة: هي السبب إليها، وذلك بالإعراض أو الإقلاع عما يضاد المغفرة، وقدم المغفرة لأنها هي الغرض المطلوب، والتوبة سبب إليها. وقد تقدم في أول السورة توضيح الفرق.
٢- اقتصرت إجابة عاد قوم هود له على التركيز على عبادة الآلهة من الأصنام والأوثان، وتقليد الأسلاف، وذلك يدل على تعطيل الفكر والعقل، وعدم النظر الحر الطليق القائم على الاستدلال بالأدلة الكثيرة والمعجزات المتضافرة التي أظهرها الله على يد هود عليه السلام، ومنها تحديهم بالمكايدة والمعاداة والإضرار له جميعا هم وآلهتهم، وعدم الإمهال ساعة، وهو موقف يدل مع كثرة الأعداء على كمال الثقة بنصر الله تعالى، وهو أيضا من أعلام النبوة: أن يكون الرسول وحده

صفحة رقم 94

يقول لقومه: فَكِيدُونِي جَمِيعاً.. وكذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لقريش، وقال نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس ١٠/ ٧١]
٣- التوكل على الله الخالق القاهر المتصرف بالمخلوقات كيف يشاء، والمانع مما يشاء هو من أصول الإيمان التي تمنع وصول الضرر إلى النبي هود عليه السلام وكل مؤمن صادق مخلص، فما من نفس تدب على الأرض أو في السماء إلا وهي تحت سلطان الله وقهره وتصرفه.
٤- الله تعالى قادر على الحق والعدل، وهو سبحانه وإن كان قادرا على قوم عاد العتاة الأشداء، لكنه لا يظلمهم، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب.
٥- مهمة الأنبياء هي تبليغ الرسالات ومحاجة الكفار، فإن أعرض الناس عن دعواتهم وبيانهم، فهم أي الأنبياء قد أبرؤوا الذمة، وأدوا الغرض، وكان الناس الكافرون المعرضون هم الذين يخسرون، ويتضررون، ويتعرضون للعذاب في الدنيا بالإهلاك، واستخلاف قوم آخرين هم أطوع لله منهم يوحدونه ويعبدونه، وفي الآخرة بدخول جهنم. والله رقيب على كل شيء من أقوال العباد وأفعالهم، ويحاسبهم ويجازيهم عليها.
٦- أحوال قبيلة عاد خطيرة ذات أوصاف ثلاثة: هي الجحود بآيات ربهم، وعصيان رسولهم، واتباعهم أو تقليدهم أوامر رؤسائهم دون تفكير ولا روية.
٧- كانت عقوبة قبيلة هود لحوق اللعنة عليهم في الدنيا من الله ومن الناس، وهلاكهم بريح صرصر عاتية وبعدهم عن الخير، والطرد من رحمة الله في يوم القيامة، وما ربك بظلام للعبيد.

صفحة رقم 95
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية