الثَّمَانِينَ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ، نِصْفُهُمْ رِجَالٌ، وَنِصْفُهُمْ نِسَاءٌ. وَقَالَ ابن إسحاق: كانوا عشرة سِوَى نِسَائِهِمْ: نُوحٌ، وَبَنُوهُ سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ، وَسِتَّةُ ناس من كَانَ آمَنَ بِهِ وَأَزْوَاجُهُمْ جَمِيعًا. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَشَرَةً: خَمْسَةُ رِجَالٍ، وَخَمْسُ نِسْوَةٍ.
وَقِيلَ: كَانُوا تسعة ونوح، وَثَمَانِيَةُ أَبْنَاءٍ لَهُ وَزَوْجَتُهُ. وقيل: كانوا ثمانية ونوح وَزَوْجَتُهُ غَيْرُ الَّتِي عُوقِبَتْ، وَبَنُوهُ الثَّلَاثَةُ وَزَوْجَاتُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ: قَتَادَةَ، وَالْحَكَمِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا سَبْعَةً: نُوحٌ، وَثَلَاثُ كَنَائِنَ، وَثَلَاثُ بَنِينَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَالَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَلَا يُمْكِنُ التَّنْصِيصُ عَلَى عَدَدِ هَذَا النَّفَرِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَبْهَمَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ إِلَّا بِنَصٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤١ الى ٦٠]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥)
قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠)
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو، ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. قَالَ:
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ |
الْجُودِيُّ: عَلَمٌ لِجَبَلٍ بِالْمَوْصِلِ، وَمَنْ قَالَ بِالْجَزِيرَةِ أَوْ بِآمِدَ، فَلِأَنَّهُمَا قَرِيبَانِ مِنَ الْمَوْصِلِ.
وَقِيلَ الْجُودِيُّ: اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سَبْحَانًا نَعُوذُ لَهُ | وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ |
وَأَشْرَبِ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ | إِلَّا لِأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا |
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَعُرْوَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ: ابْنَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ أَيِ: ابْنَهَا مُضَافًا لِضَمِيرِ امْرَأَتِهِ
، فَاكْتَفَى بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِمَّا تَقُودُ بِهَا شَاةً فَتَأْكُلُهَا | أَوْ أَنْ تَبِيعَهُ فِي بَعْضِ الْأَرَاكِيبِ |
فَلَسْتَ بِمُدْرِكٍ مَا فَاتَ مِنِّي | بِلَهْفَ وَلَا بِلَيْتَ وَلَا لَوَانِّي |
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ انْتَهَى. وَهَذَا أَعْنِي مِثْلَ تَلَهَّفَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ضَرُورَةً، وَلِذَلِكَ لَا يُجِيزُونَ يَا غُلَامُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا كَمَا اجْتَزَءُوا بِالْكَسْرَةِ فِي يَا غُلَامِ عَنِ الْيَاءِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ.
وَقَرَأَ أَيْضًا عَلِيٌّ وَعُرْوَةُ ابْنَهَا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَأَلِفٍ
أَيِ: ابْنَ امْرَأَتِهِ.
وَكَوْنُهُ لَيْسَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ قَوْلَ: عَلِيٍّ
، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيْسَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَأَنْتَ تَقُولُ: لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ صفحة رقم 157
كَانَ ابْنَهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَأْخُذُ دِينِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِي وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَبِيبًا. وَكَانَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، يَحْلِفَانِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَضَاضَةٌ عُصِمَتْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ، ولعله لا يصح عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ابْنَهُ أَوِ ابْنَهَا فَشَاذَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ نُسِبَ إِلَى أُمِّهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهَا، وَلَمْ يُضَفْ إِلَى أَبِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِثْلَهَا، يُلْحَظُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يُضَفْ إِلَيْهِ اسْتِبْعَادًا لَهُ، وَرَعْيًا أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ كَافِرٌ، وَإِنَّمَا نَادَاهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَحَبَّ نَجَاتَهُ. أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ إِنْ كَانَ كَافِرًا لِمَا شَاهَدَ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ارْكَبْ مَعَنَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَتَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، أَيِ ارْكَبْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَا يَرْكَبُ مَعَهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ لِقَوْلِهِ: ومن آمن.
وفي مَعْزِلٍ أَيْ: فِي مَكَانٍ عَزَلَ فِيهِ نَفْسَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ مَرْكَبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: فِي مَعْزِلٍ عَنْ دِينِ أَبِيهِ، وَنِدَاؤُهُ بِالتَّصْغِيرِ خِطَابُ تَحَنُّنٍ وَرَأْفَةٍ، وَالْمَعْنَى: ارْكَبْ مَعَنَا فِي السَّفِينَةِ فَتَنْجُوَ وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ فَتَهْلَكَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ اجْتَزَأَ بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلْفِ، وَأَصْلُهُ يَا بُنَيًّا كَقَوْلِكَ: يَا غُلَامًا، كَمَا اجْتَزَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ فِي قِرَاءَتِهِمْ يَا بَنِي بِكَسْرِ الْيَاءِ، أَوْ أَنَّ الْأَلِفَ انْحَذَفَتْ لِالْتِقَائِهَا مَعَ رَاءِ ارْكَبْ. وَظَنَّ ابْنُ نُوحٍ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ وَالتَّفْجِيرَ عَلَى الْعَادَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ أَيْ: مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى فَلَا أَغْرَقُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْكُفْرِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِأَبِيهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ.
قِيلَ: وَالْجَبَلُ الَّذِي عَنَاهُ طُورُ زَيْتَا فَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَالظَّاهِرُ إِبْقَاءُ عَاصِمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّهُ نَفَى كُلَّ عَاصِمٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ يَقَعُ فِيهِ مَنْ عَلَى الْمَعْصُومِ.
وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَضَمِيرُ الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا أَيْ: لَكِنْ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْصُومٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا عَاصِمَ إِلَّا الرَّاحِمُ، وَأَنْ يَكُونَ عَاصِمَ بِمَعْنَى ذِي عِصْمَةٍ، كَمَا قَالُوا لَابِنٌ أَيْ: ذُو لَبَنٍ، وَذُو عِصْمَةٍ، مُطْلَقٌ عَلَى عَاصِمٍ وَعَلَى مَعْصُومٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَعْصُومُ. أَوْ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَيَكُونُ عَاصِمٌ بِمَعْنَى مَعْصُومٍ، كَمَاءٍ دَافِقٍ بِمَعْنَى مَدْفُوقٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَطِيءُ القيام رخيم الكلام | أمي فُؤَادِي بِهِ فَاتِنًا |
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ | بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ |
اهْبِطْ أَنْتَ وَأُمَمٌ، وَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا مُغْنِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ، وسنمتعهم نعت لأمم انْتَهَى. وَهَذَا التَّقْدِيرُ وَالْمَعْنَى لَا يَصْلُحَانِ، لِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ إِنَّمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ:
وَمَنْ آمَنَ، وَلَمْ يَكُونُوا قِسْمَيْنِ كُفَّارًا وَمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ الْكُفَّارُ مَأْمُورِينَ بِالْهُبُوطِ مَعَ نُوحٍ، إِلَّا صفحة رقم 164
إِنْ قَدَّرَ أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكْفُرُ بَعْدَ الْهُبُوطِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بالحالة التي يؤولون إِلَيْهَا فَيُمْكِنُ عَلَى بُعْدٍ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَعَهُ يَنْشَأُ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَنَبَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سَلَامٌ وَبَرَكَةٌ، وَعَلَى الْكُفْرِ بِأَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ يُمَتَّعُونَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النَّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَعَكَ يَدُلُّ عَلَى أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا مِمَّنْ مَعَهُ، وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ إِنْ كَانُوا أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ فَقَطْ، أَوْ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمُ، انْتَظَمَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَبُو الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَسُمِّيَ آدَمَ الْأَصْغَرَ لِذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا أَوْلَادَهُ وَغَيْرَهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ أَوْلَادِهِ مَاتَ وَلَمْ يَنْسُلْ صَحَّ أَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ بَعْدَ آدَمَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ نَشَأَ مِمَّنْ مَعَهُ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِالَّذِينَ مَعَهُ أَوْلَادُهُ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ. وَإِنْ كَانُوا نَسَلُوا كَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَلَا يَنْتَظِمُ أَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ بَعْدَ آدَمَ بَلِ الْخَلْقُ بَعْدَ الطُّوفَانِ مِنْهُ، وَمِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ وَالْأُمَمُ الْمُمَتَّعَةُ لَيْسُوا مُعَيَّنِينَ، بَلْ هُمْ عِبَارَةٌ عَنِ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ، وَتَقَدَّمَتْ أَعَارِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ «١» فِي آلِ عِمْرَانَ، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ لِلْبَعِيدِ، لِأَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَالرَّسُولِ مُدَدًا لَا تُحْصَى. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى آيات القرآن، ومن أَنْبَاءِ الْغَيْبِ وَهُوَ الَّذِي تَقَادَمَ عَهْدُهُ وَلَمْ يَبْقَ عِلْمُهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ، ونوحيها إِلَيْكَ لِيَكُونَ لَكَ هِدَايَةً وَأُسْوَةً فِيمَا لَقِيَهُ غَيْرُكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهَا عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ قَوْمِكَ، وَأَعْلَمْنَاهُمْ بِهَا لِيَكُونَ مِثَالًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا أَنْ يُصِيبَهُمْ إِذَا كَذَّبُوكَ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ، وَلِلَحْظِ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَتْ فَصَاحَةُ قَوْلِهِ:
فَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ مُجْتَهِدًا فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، فَالْعَاقِبَةُ لَكَ كَمَا كَانَتْ لنوح فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَمَعْنَى مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا: أَيْ مُفَصَّلَةً كَمَا سَرَدْنَاهَا عَلَيْكَ، وَعِلْمُ الطُّوفَانِ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَالَمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَالْمَجُوسُ الْآنَ يُنْكِرُونَهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ نُوحِيهَا، أَوْ مِنْ مَجْرُورِ إِلَيْكَ، وَقَدَّرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ تَقْدِيرَ مَعْنًى فَقَالَ: أَيْ مَجْهُولَةً عِنْدَكَ وَعِنْدَ قَوْمِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِلَى الْوَقْتِ أَوْ إِلَى الْإِيحَاءِ أَوْ إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ بِالْوَحْيِ احْتِمَالَاتٌ، وفي مصحف ابن
مَسْعُودٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا قَوْمُكَ مَعْنَاهُ: أَنَّ قَوْمَكَ الَّذِينَ أَنْتَ مِنْهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَوُفُورِ عَدَدِهِمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَأْنَهُمْ، وَلَا سَمِعُوهُ وَلَا عَرَفُوهُ، فَكَيْفَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ: لَمْ يَعْرِفُ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَلَا أَهْلُ بَلَدِهِ؟.
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، عطف الْوَاوُ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَجْرُورِ، وَالْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَنْصُوبِ، كَمَا يُعْطَفُ الْمَرْفُوعُ وَالْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْصُوبِ نَحْوَ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَبَكْرٌ خَالِدًا، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْفَصْلِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَفِي الْبَيْتِ عَمْرًا، فَيَجِيءُ مِنْهُ الْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ: هَلْ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ؟ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي هُودٍ وَعَادٍ وَإِخْوَتِهِ مِنْهُمْ فِي الْأَعْرَافِ، وَقِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ غَيْرِهِ بِالْخَفْضِ، وَقِيلَ: ثَمَّ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ:
وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَهُودًا بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَرَأَ مُحَيْصِنٍ: يَا قَوْمُ بِضَمِّ الْمِيمِ كقراءة حفص: قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ بِالضَّمِّ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَافْتِرَاؤُهُمْ قَالَ الْحَسَنُ: فِي جَعْلِهِمُ الْأُلُوهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِاتِّخَاذِكُمُ الْأَوْثَانَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي فَطَرَنِي، عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَفْعَلُ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الْفَاطِرُ لِلْمَوْجُودَاتِ يَسْتَحِقُّ إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. وأفلا تَعْقِلُونَ تَوْقِيفٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِ الْفَاطِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ رَاجِعًا إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ أَطْلُبْ عَرَضًا مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ نَفْعَكُمْ فَيَجِبُ انْقِيَادُكُمْ لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ نَصِيحَةَ مَنْ لَا يَطْلُبُ عَلَيْهَا أَجْرًا إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا شَيْءَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ «١» أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ قَصَدَ هُودٌ اسْتِمَالَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَرْغِيبَهُمْ فِيهِ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ زُورِعٍ وَبَسَاتِينَ وَعِمَارَاتٍ حِرَاصًا عَلَيْهَا أَشَدَّ الْحِرْصِ، فَكَانُوا أَحْوَجَ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ، وَكَانُوا مُدْلِينَ بِمَا أُوتُوا مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ وَالْبَأْسِ مُهَيَّئِينَ فِي كُلِّ ناحية.
وَقِيلَ: أَرَادَ الْقُوَّةَ فِي الْمَالِ، وَقِيلَ: فِي النِّكَاحِ. قِيلَ: وَحُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَعَقِمَتْ أَرْحَامُ نِسَائِهِمْ.
وَقَدِ انْتَزَعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ قَوْلِهِ:
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، أَنَّ كَثْرَةَ الِاسْتِغْفَارِ قَدْ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْوَلَدِ.
وَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ وَلَا يُولَدُ لَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَوُلِدَ لَهُ عَشْرُ بَنِينَ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ، أَنَّهُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: فِي الْجِسْمِ وَالْبَأْسِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَصْبًا إِلَى خَصْبِكُمْ، وَقِيلَ: نِعْمَةً إِلَى نِعْمَتِهِ الْأُولَى عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ: قُوَّةً فِي إِيمَانِكُمْ إِلَى قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِكُمْ.
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ: بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِكَ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَبَهَتُوهُ كَمَا كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «١» وَقَدْ جَاءَهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ لِعَمَائِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِي الْآيَاتِ اعْتَقَدُوا مَا هُوَ آيَةٌ لَيْسَ بِآيَةٍ فَقَالُوا: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ تُلْجِئُنَا إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِلَّا فَهُودٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ مُعْجِزَاتٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَنَا بَعْضَهَا. أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عليه البشر»
وعن فِي عَنْ قَوْلِكَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تاركي آلِهَتِنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَادِرِينَ عَنْ قَوْلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: عَنْ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «٢» فَتَتَعَلَّقُ بِتَارِكِي، كَأَنَّهُ قِيلَ لِقَوْلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى التَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِ فِيهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: أَيْ لَا يَكُونُ قَوْلُكُ سَبَبًا لَتَرْكِنَا، إِذْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ آيَةٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَأْكِيدٌ وَتَقْنِيطٌ لَهُ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي دِينِهِ، ثُمَّ نَسَبُوا مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِلَى الْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اعْتَرَاهُ بِهِ بَعْضُ آلِهَتِهِمْ لِكَوْنِهِ سَبَّهَا وَحَرَّضَ عَلَى تَرْكِهَا وَدَعَا إِلَى تَرْكِ عِبَادَتِهَا، فَجَعَلَتْهُ يَتَكَلَّمُ مُكَافَأَةً بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْمَجَانِينُ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ «٣» واعتراك جملة محكية
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١١٤.
(٣) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٧٠.
بنقول، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَدَلَّتْ عَلَى بَلَهٍ شَدِيدٍ وَجَهْلٍ مُفْرِطٍ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا فِي حِجَارَةٍ أَنَّهَا تَنْتَصِرُ وَتَنْتَقِمُ. وَقَوْلُ هُودٍ لَهُمْ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ إِلَى آخِرِهِ، حَيْثُ تَبَرَّأَ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَحَرَّضَهُمْ كُلَّهُمْ مَعَ انْفِرَادِهِ وَحْدَهُ عَلَى كَيْدِهِ بِمَا يشاؤون، وَعَدَمُ تَأَخُّرِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَثِقَتِهِ بِمَوْعُودِ رَبِّهِ مِنَ النَّصْرِ لَهُ، وَالتَّأْيِيدِ وَالْعِصْمَةِ مِنْ أَنْ يَنَالُوهُ بِمَكْرُوهٍ، هَذَا وَهْمُ حَرِيصُونَ عَلَى قَتْلِهِ يَرْمُونَهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ نُوحٍ لِقَوْمِهِ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ «١» وَأَكَّدَ بَرَاءَتَهُ مِنْ آلهتهم وشركهم، ووقفها بِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ تَوْثِيقِهِمُ الْأَمْرَ بِشَهَادَةِ اللَّهِ وَشَهَادَةِ الْعِبَادِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكُمْ (قُلْتُ) : لِأَنَّ إِشْهَادَ اللَّهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ إِشْهَادٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي مَعْنَى تَثْبِيتِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا إِشْهَادُهُمْ فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَاوُنٌ بِدِينِهِمْ وَدِلَالَةٌ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ فَحَسْبُ، فَعُدِلَ بِهِ عَنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا، وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ انتهى. وإني بَرِيءٌ تَنَازَعَ فِيهِ أُشْهِدُ واشهدوا، وَقَدْ يَتَنَازَعُ الْمُخْتَلِفَانِ فِي التَّعَدِّي الِاسْمَ الَّذِي يَكُونُ صَالِحًا لِأَنْ يَعْمَلَا فِيهِ تَقُولُ: أَعْطَيْتُ زَيْدًا وَوَهَبْتُ لعمر ودينارا، كَمَا يَتَنَازَعُ اللَّازِمُ وَالْمُتَعَدِّي نَحْوَ: قَامَ وَضَرَبْتُ زَيْدًا. وما فِي مَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ، إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: بَرِيءٌ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، أَوْ مِنَ الَّذِينَ تُشْرِكُونَ، وجميعا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كِيدُونِي الْفَاعِلِ، وَالْخِطَابُ إِنَّمَا هُوَ لِقَوْمِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ انْتَهَى. قِيلَ: وَمُجَاهَرَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ أَدْيَانِهِمْ، وَحَضُّهُ إِيَّاهُمْ عَلَى كَيْدِهِ هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ مُعْجِزَةٌ لِهُودٍ، أَوْ حَرَّضَ جَمَاعَتَهُمْ عَلَيْهِ مَعَ انْفِرَادِهِ وَقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نَيْلِهِ بِسُوءٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ مُعْلِمًا أَنَّهُ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، وَمُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَبُّكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَمُفَوِّضًا أَمْرَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى ثِقَةً بِحِفْظِهِ وَانِجَازِ مَوْعُودِهِ، ثُمَّ وَصَفَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمَ مُلْكِهِ مِنْ كَوْنِ كُلِّ دَابَّةٍ فِي قَبْضَتِهِ وَمِلْكِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَأَنْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ أُولَئِكَ الْمَقْهُورِينَ. وَقَوْلُهُ: آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا تَمْثِيلٌ، إِذْ كَانَ الْقَادِرُ الْمَالِكُ يَقُودُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ بِنَاصِيَتِهِ، كَمَا يُقَادُ الْأَسِيرُ وَالْفَرَسُ بِنَاصِيَتِهِ، حَتَّى صَارَ الْأَخْذُ بِالنَّاصِيَةِ عُرْفًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَجُزُّ نَاصِيَةَ الْأَسِيرِ الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ عَلَامَةَ أَنَّهُ قَدْ قُدِرَ عَلَيْهِ وَقُبِضَ عَلَى نَاصِيَتِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
وَخَصَّ النَّاصِيَةَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا وَصَفَتْ إِنْسَانًا بِالذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ قَالَتْ: مَا نَاصِيَةُ فُلَانٍ إِلَّا بِيَدِ
فُلَانٍ، أَيْ أَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَعَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي مُلْكِهِ، لَا يَفُوتُهُ ظَالِمٌ وَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ الصِّدْقُ، وَوَعْدُهُ الْحَقُّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ تَتَوَلَّوْا مُضَارِعُ تَوَلَّى. وَقَرَأَ الأعرج وعيسى الثَّقَفِيُّ: تُوَلُّوا بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ مُضَارِعُ وَلَّى، وَقِيلَ: تَوَلَّوْا مَاضٍ وَيَحْتَاجُ فِي الْجَوَابِ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، أي: فَقُلْ لَهُمْ قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى جَعْلِهِ مَاضِيًا وَإِضْمَارِ الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوَلَّوْا فِعْلًا مَاضِيًا، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ رُجُوعٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ أَيْ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ انْتَهَى. فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَوَلَّوْا عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ هُودٍ، وَخِطَابٌ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ الْجَمَلِ الْمَقُولَةِ قَبْلُ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِ قَوْمِ هُودٍ إِلَى الْإِخْبَارِ عَمَّنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبِرْهُمْ عَنْ قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ، وَادْعُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ كَمَا أَصَابَ قَوْمَ هُودٍ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ لَهُمْ: قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا، لِأَنَّ فِي إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ رِسَالَتَهُ تَضَمُّنُ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ تَتَوَلَّوُا اسْتُؤْصِلْتُمْ بِالْعَذَابِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْإِبْلَاغُ كَانَ قَبْلَ التَّوَلِّي، فَكَيْفَ وَقَعَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ؟
(قُلْتُ) : مَعْنَاهُ فَإِنْ تَوَلَّوْا لَمْ أُعَاقِبْ عَلَى تَفْرِيطٍ فِي الْإِبْلَاغِ، فَإِنَّ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ قَدْ بَلَغَكُمْ فَأَبَيْتُمْ إِلَّا تَكْذِيبَ الرِّسَالَةِ وَعَدَاوَةَ الرَّسُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ ما عليّ كبيرهم مِنْكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَقَدْ بَرِئَتْ سَاحَتِي بِالتَّبْلِيغِ، وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ الذَّنْبِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَسْتَخْلِفُ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُسْتَأْنَفِ أَيْ: يُهْلِكُكُمْ وَيَجِيءُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ يَخْلُفُونَكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. وَقَرَأَ حَفْصٌ فِي رِوَايَةِ هُبَيْرَةَ: بِجَزْمِهَا عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ الْجَزَاءِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَلِكَ، وَبِجَزْمِ وَلَا تَضُرُّوهُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَضُرُّونَهُ أَيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ بِتَوْلِيَتِكُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَضَارُّ وَالْمَنَافِعُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ مِنَ الْمَعْنَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا تَضُرُّونَهُ بِذَهَابِكُمْ وَهَلَاكِكُمْ شَيْئًا أَيْ:
لَا يَنْقُصْ مُلْكُهُ، وَلَا يَخْتَلُّ أَمْرُهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا تَنْقُصُونَهُ شَيْئًا. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: وَلَا تَضُرُّونَهُ أَيْ: وَلَا تَقْدِرُونَ إِذَا أَهْلَكَكُمْ عَلَى إِضْرَارِهِ بِشَيْءٍ، وَلَا
عَلَى انْتِصَارٍ مِنْهُ، وَلَا تُقَابِلُونَ فِعْلَهُ بِشَيْءٍ يَضُرُّهُ انْتَهَى. وَهَذَا فِعْلٌ مَنْفِيٌّ وَمَدْلُولُهُ نَكِرَةٌ، فَيَنْتَفِي جَمِيعُ وُجُوهِ الضَّرَرِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا. وَمَعْنَى حَفِيظٌ رَقِيبٌ مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ عِلْمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ مُؤَاخَذَتِكُمْ، وَهُوَ يَحْفَظُنِي مِمَّا تَكِيدُونَنِي بِهِ.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ: الْأَمْرُ وَاحِدُ الْأُمُورِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْعَذَابِ، أَوْ عَنِ الْقَضَاءِ بِهَلَاكِهِمْ. أَوْ مَصْدَرُ أَمَرَ أَيْ أَمْرُنَا لِلرِّيحِ أَوْ لِخَزَنَتِهَا. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قِيلَ: كَانُوا أربعة آلاف، وقيل: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقٌ بِرَحْمَةٍ مِنَّا بِقَوْلِهِ: نَجَّيْنَا أَيْ، نَجَّيْنَاهُمْ بِمُجَرَّدِ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَحِقَتْهُمْ، لَا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ.
أَوْ كَنَّى بِالرَّحْمَةِ عَنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، إِذْ تَوْفِيقُهُمْ لَهَا إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِآمَنُوا أَيْ: إِنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ إِنَّمَا هُوَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ، إِذْ وَفَّقَهُمْ لِذَلِكَ. وَتَكَرَّرَتِ التَّنْجِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَلِقَلَقِ مَنْ لولا صقت مِنَّا فَأُعِيدَتِ التَّنْجِيَةُ وَهِيَ الْأُولَى، أَوْ تَكُونُ هَذِهِ التنجية هِيَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَا عَذَابَ أَغْلَظُ مِنْهُ، فَأُعِيدَتْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى تَكْرِيرِ التَّنْجِيَةِ؟ (قُلْتُ) : ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُ حِينَ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ نَجَّاهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ عَلَى مَعْنَى، وَكَانَتِ التَّنْجِيَةُ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا بَعَثَ عَلَيْهِمُ السَّمُومَ، فَكَانَتْ تَدْخُلُ فِي أُنُوفِهِمْ وَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ وَتُقَطِّعُهُمْ عُضْوًا عُضْوًا انْتَهَى، وَهَذَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ، وَكَانَتِ النَّجَاةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ يُرِيدُ الرِّيحَ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عَلَى هَذَا تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي عَذَابِهِمْ بِالرِّيحِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُهُمْ وَتَهْدِمُ مَسَاكِنَهُمْ وَتَنْسِفُهَا، وَتَحْمِلُ الظَّعِينَةَ «١» كَمَا هِيَ، وَنَحْوَ هَذَا. وتلك عَادٌ إِشَارَةٌ إِلَى قُبُورِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا إِلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْأَخْبَارَ عَنْهُمْ فَقَالَ: جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ أَيْ: أَنْكَرُوهَا. وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى رَبِّهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ مَالِكُهُمْ وَمُرَبِّيهِمْ، فَأَنْكَرُوا آيَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ إِقْرَارُهُمْ بِهَا. وَأَصْلُ جَحَدَ أَنْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى كَفَرَ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، كَمَا عُدِّيَ كَفَرَ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ، إِجْرَاءً له مجرى