
العبرة من قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
الإعراب:
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ: تِلْكَ مبتدأ، وخبره: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. نُوحِيها خبر بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال، أي تلك كائنة من أنباء الغيب نوحيها إليك.
ويجوز أن يكون: تِلْكَ مبتدأ، ونُوحِيها: خبره، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ: من صلته، وتقديره: تلك نوحيها إليك من أنباء الغيب.
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أُمَمٍ مبتدأ، وسَنُمَتِّعُهُمْ صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، ودل عليه قوله مِمَّنْ مَعَكَ.
المفردات اللغوية:
اهْبِطْ بِسَلامٍ أنزل من السفينة بسلامة أو بتحية، أي مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ خيرات عليك ومباركا عليك، أو زيادات في نسلك حتى تصير آدم ثانيا وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم هم الذين معك في السفينة، أي من أولادهم وذريتهم هم المؤمنون، سموا أمما لتشعب الأمم منهم، فهم أصول البشرية، وقد تسللت الأعراق والأجناس من أولاد نوح: سام (وهم السامانيون) وحام (وهم الأفارقة) ويافث (وهم أهل الصين واليابان وأمثالهم).

وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا، ثم يمسّهم منا عذاب أليم في الآخرة، والمراد بهم الكفار من ذرية من معه، وقيل: قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: هو ما نزل بهم.
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ من بعض أخبار ما غاب عنك نُوحِيها إِلَيْكَ يا محمد مِنْ قَبْلِ هذا القرآن فَاصْبِرْ على التبليغ وأذى قومك كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك والمعاصي.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن استواء السفينة واستقرارها على الجودي، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ذكر تعالى أمرين هما عبرة القصة:
الأول- تكريم نوح عليه السلام والمؤمنين معه بوعده تعالى عند الخروج من السفينة بالسلامة أولا، ثم بالبركة ثانيا، والسلامة تتضمن الدعوة لهم بالوقاية من المكروه لأنهم كانوا كالخائفين على وضعهم: كيف يعيشون وكيف يحققون حاجاتهم من المأكول والمشروب، بعد أن عم الغرق جميع الأرض، وعلموا أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان.
ثم إنه تعالى لما وعد نوحا ومن معه بالسلامة، أردفه بأن وعدهم بالبركة وهي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل.
والثاني- الإخبار عن أمور غائبة عن الخلق، تكون بمثابة الإنذار والإرهاب والاعتبار، وإعطاء الأمثلة للصبر الذي هو مفتاح الفرج:
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما قيل لنوح عليه السلام، حين أرست السفينة على الجودي، من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته

إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
والمعنى: قال الله أو الملائكة لنوح بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من جبل الجودي إلى الأرض، فقد ابتلعت الماء وجفّت، بسلام منا، أي بسلامة وأمن أو بتحية، أي مسلما محفوظا من جهتنا، أو مسلما عليك مكرّما كما قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات ٣٧/ ٧٩]، وبركات عليك، والبركات: نعم ثابتة وخيرات نامية، أي ومباركا عليك في المعايش والأرزاق، تفيض عليك، وعلى أمم ممن معك نسلا وتولدا، أي هم ومن يتناسل منهم من ذرية، ويصير التقدير: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم، فيدخل في قوله مِمَّنْ مَعَكَ كل مؤمن إلى يوم القيامة، وفي قوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ كل كافر إلى يوم القيامة، كما روي ذلك عن محمد بن كعب.
والمعنى: إن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين، ينشئون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون بالدنيا، منقلبون إلى النار.
وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة.
وهكذا عم السلام والتبريك كل المؤمنين، على اختلاف تجمعاتهم. لكن من أولئك المؤمنين سيكون من نسلهم أمم وجماعات آخرون من بعدهم، يمتعون في الدنيا بالأرزاق والبركات، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة، لكفرهم وعنادهم، فانقسم الناس بعد نوح قسمين: قسم مؤمنون صالحون ممتعون في الدنيا والآخرة، وقسم ممتعون في الدنيا فقط معذبون في الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى العبرة العامة من قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيوب السابقة، نوحيها إليك على وجهها، كأنك تشاهدها، ونعلمك بها وحيا منا إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا أحد من قومك، حتى يقول من يكذبك: إنك تعلمتها من إنسان، بل أخبرك الله بها.
فاصبر على تكذيب المكذبين من قومك، وأذاهم لك، وعلى تبليغ رسالتك كما صبر نوح على أذى الكفار، فإن النصر والفوز والنجاة للمتقين الذين يطيعون الله ويتجنبون المعاصي، وإنا سننصرك ونرعاك ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين، حيث نصرناهم على أعدائهم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر ٤٠/ ٥١] الآية، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يأتي:
١- السلامة والأمن، والتحية والتسليم والتكريم، والبركات والنعم من الله تعالى، على كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وذلك بدءا من نوح عليه السلام ومن آمن معه.
٢- المتاع والانتفاع بنعم الدنيا، والتعذيب في الآخرة، لكل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، بدءا من ذرية المؤمنين في عصر نوح عليه السلام وذرية أمم من بعدهم.
٣- كان خبر نوح وقصته مع قومه من أنباء ما غاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، أوحى الله بها إليه وأطلعه عليها، دون أن يكون عالما هو وقومه بها قبل ذلك،

فلم يعرف أحد أمر الطوفان، وكانت القصة على النحو الصحيح الدقيق مجهولة عند النبي صلى الله عليه وسلّم وعند قومه.
٤- كان الغرض من ذكر قصة نوح في سورة يونس هو معرفة وجه الشبه بين قوم نوح وقوم محمد عليهما السلام، وهو ان قوم نوح كذبوه لأنه هددهم بنزول العذاب، فاستعجلوه، ثم ظهر في نهاية الأمر، وكذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلّم استعجلوا نزول العذاب مثل قوم نوح. فوجه الشبه في سورة يونس هو استعجال العذاب.
وفي هذه السورة (هود) أعاد الله تعالى ذكر هذه القصة لهدف آخر، وهو بيان أن إقدام الكفار على الإيذاء كان حاصلا في زمن نوح، فلما صبر عليه السلام، نال الفتح والظفر، فلتكن يا محمد كذلك، لتنال المقصود، فقد عرفت مآل الصبر عند نوح والمؤمنين، وعاقبة الكفر، فوجه الشبه هو الإيذاء، وأن الصبر عليه مؤد إلى النصر.
٥- إن الصبر على مشاق تبليغ الرسالة الإلهية، وإذاية القوم، مفتاح الفرج، وسبيل الظفر والنصر، كما صبر نوح ومحمد وأولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد صبر نوح على أذى قومه، ثم نصره الله عليهم، وكذلك صبر النبي صلى الله عليه وسلّم على أذى العرب الكفار، فأيده الله، وأعزّه، ونصره عليهم نصرا مؤزرا.
٦- إن العاقبة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز للمتقين عن الشرك والمعاصي، القائمين بأوامر الله، الملتزمين حدوده، المطيعين شرعه.
٧- يدل إيراد قصة نوح عليه السلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه.