
فأنتم في ملكوته وتحت قبضته.. ولا ينفعكم نصحى لكم وإخلاصى معكم في شيء أبدا إن أردت ذلك. إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحى أبدا، إذ قبول النصح والانتفاع به يكون للمستعد للخير القابل له. أما إذا فسدت النفس وران على القلب الحجاب فلن يرى النور ولن ينتفع به، ومعنى إغواء الله على إرادته أن يكونوا من الغاوين لا خلق هذه الغواية فيهم، وفسر ابن جرير الطبري الغواية بالهلاك فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [سورة مريم آية ٥٩].
إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم ومالك أمركم وإليه ترجعون.. أم يقولون افتراه وهذا إضراب انتقالي على معنى بل أيقولون افتراه واختلقه؟ قل لهم: إن افتريته فعلىّ وحدى ذنب جرمي. قال بعضهم: إن هذه الآية معترضة في قصة نوح وهي من قول مشركي مكة وهذا رد محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم.
وقيل هذا من كلام نوح، ومن رد نوح عليهم.. وهذا يشبه قوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. [يونس ٤١].
يأس نوح منهم وصنعه السفينة [سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)

المفردات:
تَبْتَئِسْ الابتئاس: حزن في استكانة، والمراد: لا تغتم بهلاكهم بِأَعْيُنِنا المراد بملاحظتنا ومراقبتنا، والفلك السفينة سَخِرُوا استهزءوا وضحكوا فارَ التَّنُّورُ المراد: ظهور الماء على وجه الأرض بكثرة، والفوران الغليان، والتنور هو المكان الذي يصنع فيه الخبز. وقيل: هو تمثيل لاشتداد الغضب.
المعنى:
أوحى ربك إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن بالفعل فلا تحزن على كفرهم ولا تبتئس لفعلهم فقد سبق فيهم القضاء وحقت كلمة ربك على الذين كفروا.
واصنع الفلك لتكون أداة لنجاتك من الغرق أنت ومن معك من المؤمنين، اصنعها بأعيننا وتحت ملاحظتنا حالة كونك مشمولا برعايتنا ومعلما بوحينا لك كيفية الصنع حتى لا تقع في خطأ، وجمع الأعين بِأَعْيُنِنا للإشارة إلى كمال العناية وتمام الرعاية.
ولا تخاطبني يا نوح في شأن الذين ظلموا أبدا فقد حم القضاء، ونزل البلاء، وحقت عليهم الكلمة أنهم لمغرقون فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة.
ويصنع السفينة وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه سخروا منه واستهزءوا به ظانين أنه مجنون ينفق وقته وجهده في عمل لغو لا فائدة فيه، قال نوح مجيبا لهم:
إن تسخروا منا اليوم لصنعنا شيئا هو في ظنكم خرق وحماقة فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا، فلسوف تعلمون قريبا من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا بالغرق، ويحل عليه عذاب مقيم دائم في الآخرة.