
والقصة مدرسة المؤمنين المنتفعين بهدى القرآن هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فيها أحسن الدروس، وأقوى الأمثال التي تضرب لتحمل الدعاة المرشدين إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ. قال يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ إلى آخر ما في قصة نوح.
أما تكرارها في القرآن فلما في أغراضها ومقاصدها من معان جلية، وفوائد سامية يحرص القرآن دائما على ذكرها لتكون ماثلة أمام أعين المسلمين بكل لون وأسلوب، ولا غرابة فإنا نرى أصحاب الثورات والدعوات دائما في كل خطبة وفي كل موقف يرددون مبادئهم وأغراضهم وأعمالهم بأساليب مختلفة.
ولعل السر في اختلاف الأسلوب في القصة الواحدة تجديد النشاط وطرد السآمة والملل من نفس القارئ والسامع، ولا تنس أن لكل سورة لونا خاصا وصفة خاصة وحسا خاصا. وفواصل خاصة، وحالا للمخاطب خاصة تتناسب مع السياق وعلى العموم فلكل قصة سياق يتناسب مع ما سبقها وما أتى بعدها وهذا البحث يحتاج إلى كتاب يبحث فيه حال القصة الواحدة مع كل الملابسات السابقة.
قصة نوح عليه السلام [سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٣١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)

المفردات:
أَراذِلُنا جمع أرذل الذي هو جمع رذل مثل كلب وأكلب. وقيل: جمع أرذل وهو النذل والمراد: الأخساء والسفلة وأصحاب الحرف الخسيسة، وورد أنهم الفقراء والضعفاء بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره، الذي يبدو للناظر فيه من غير فكر، أو المراد بادئ الرأى أى: في بدئه الذي يظهر منه أول وهلة فَعُمِّيَتْ خفيت عليكم خَزائِنُ اللَّهِ المراد أنواع رزقه التي يحتاج إليها العباد تَزْدَرِي المراد تحتقرهم أعينكم وهذه القصة مسوقة لتأكيد ما قبلها من دلائل النبوة وأصول التوحيد.
وإثبات البعث والجزاء لمن آمن ومن كفر، حتى يعلم الكفار عن أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم أنه ليس بدعا من الرسل، وأن حاله كحال غيره من النبيين وأن جميع الأنبياء متفقون في أصول الدعوة من التوحيد الخالص، وإثبات البعث والجزاء.. وفي هذا ما فيه من أغراض القصة في القرآن.

ولقصة نوح في هذه السورة عناصر منها:
(أ) بيان دعوته بالإجمال وما رد به قومه عليه.
(ب) مناقشتهم والرد عليهم في شبهاتهم.
(ج) اشتداد الحالة وتوترها حتى استعجلوا العذاب، وقد يئس نوح منهم.
(د) كيف صنع نوح السفينة.
(هـ) بدء نهايتهم ونجاة نوح ومن آمن.
(و) استشفاع نوح لابنه.
المعنى:
تالله لقد أرسلنا نوحا وهو أول رسول، وقومه أول قوم أشركوا بالله غيره، أرسلناه فقال لهم: إنى لكم نذير بين الإنذار ظاهره. على ألا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ألست معى في أن الرسل جميعا يشتركون في أصول الدعوة إلى الله؟ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [سورة نوح الآية ٢].
أمرهم أن يعبدوا الله وحده ثم أنذرهم عذاب يوم أليم وعظيم وكبير، ألا هو يوم القيامة أو يوم الغرق، وصف بالألم الشديد، والعذاب العظيم، والهول الكبير في غير موضع من القرآن، والظاهر أن نوحا وصفه بكل هذه الأوصاف التي حكيت عنه، وفي غير هذه السورة أردف الأمر بالعبادة بقوله: أفلا تتقون. وهكذا غيره من الرسل للإشارة إلى أن التقوى هي الأمر الجامع المهم.. فبادر الملأ من قومه. والأشراف الذين كفروا بالله ورسوله إليه بحجج هي أوهى من نسيج العنكبوت قائلين:
ما نراك إلا بشرا مثلنا، لا مزية لك ولا فضل حتى تدعى الرسالة والسفارة بيننا وبين الله. هل لك مال كبير؟ أو جاه عريض؟. أو ولد وخدم؟ ليس لك شيء من هذا فكيف تكون المطاع فينا والآمر لنا؟!! وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وسفلتنا أصحاب الحرف والصناع من الفقراء والضعفاء، أنكون مع هؤلاء في صف واحد على أن إقبال هؤلاء عليك واتباعهم

لك في بادئ الأمر وظاهره بدون تأمل ولا فكر! ولا نظر في عواقب الأمور وبواطنها يدعونا إلى مخالفتك وعدم اتباعك. أنفوا أن يكونوا مثل هؤلاء الفقراء وطلبوا من نوح أن يطردهم حتى لا يجتمعوا معهم في دين فأبى وخاف من الله.
وقالوا: ما نرى لكم، أى: أنت ومن معك من عامة الناس، ما نرى لكم علينا من فضل في علم أو رأى أو جاه أو قوة يحملنا على اتباعكم والنزول عن جاهنا وشرفنا ونكون معكم في سلك واحد لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف الآية ١١].
بل الأمر أكثر من هذا وأشد وهو أننا نظنكم من الكاذبين المفترين، ونرجح أنك- في دعواك النبوة لتكون متبوعا- كاذب، وأنهم في تصديقهم لك واتباعهم رأيك- كاذبون. فأنتم جميعا متآمرون على قلب الوضع ونظام الحكم عندنا.
كيف ناقشهم نوح- عليه السلام- ورد عليهم شبهاتهم:
قال نوح يا قومي الأعزاء أخبرونى ماذا أفعل! إن كنت على حجة من ربي ظاهرة فيما جئتكم به، تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي إذ ليست النبوة من كسب البشر حتى يستقيم لكم ادعاؤكم أنى بشر مثلكم فكيف أكون نبيا مرسلا، يا قوم: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقد أرسلنى لكم وآتاني رحمة من عنده خاصة بي فوق رحمته العامة للناس جميعا، ولكنها عمّيت عليكم بالجبر والإلجاء! لا. إنه لا إكراه في الدين أبدا من قديم الزمان، وهذا رد على شبهتهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا.
ويا قوم لا أسألكم على دعائي لكم مالا ولا أجرا. ولست أطلب ملكا ولا جاها حتى تخشوا منى، وتنفقوا على، ما أجرى إلا على الله وحده، وهكذا كل رسول.
انظر إلى قول الله على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [سورة الشورى آية ٢٣].
وماذا أفعل فيمن تسمونهم الأراذل؟!! وما أنا بطارد الذين آمنوا أبدا سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، لاحتقاركم لهم فأنتم تحتقرونهم لفقرهم وضعفهم، وأنا أجلهم وأكرمهم لأنهم آمنوا واعتزوا بالله وبرسوله، ويظهر أن هذه عادة مجرمى الكفار والأشرار من الناس قديما وحديثا اقرأ معى قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام الآية ٥٢] فهذا نهى للنبي صلّى الله عليه وسلم.