
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)
ثم بيَّن سبحانه أن بين من كان طالباً للدنيا فقط ومن كان طالباً للآخرة تفاوتاً وتبايناً بعيداً فقال: (أفمن كان على بيّنة) برهان يدل على الحق (من ربه) في اتباع النبي ﷺ والإيمان بالله كغيره، ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي أفمن كان معه بيان من الله ومعجزة كالقرآن ومعه شاهد كجبريل، وقد بشرت به الكتب السابقة كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها.
والضمير في (ويتلوه شاهد) راجع إلى البيّنة باعتبار تأويلها بالبرهان أي يؤيده ويشدّده ويقويه، والضمير في (منه) راجع إلى القرآن لأنه تقدم ذكره في قوله أم يقولون افتراه أو راجع إلى الله تعالى. والمعنى ويتلو البرهان الذي هو البيّنة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله سبحانه، والشاهد هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله (- ﷺ -) فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن.
وقال الفراء: قال بعضهم: ويتلوه شاهد منه الإنجيل وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق، والهاء في منه لله عز وجل. وقيل المراد بمن كان على بيّنة من ربه هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وإضرابه.
وعن علي بن أبي طالب قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله ﷺ بيّنة

من ربه وأنا شاهد منه، أخرجه أبو نعيم وابن أبي حاتم.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويتلوه شاهد منه، علي (١) أخرجه ابن عساكر. وعنه وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد. وعن ابن عباس أن الشاهد جبريل، ووافقه سعيد بن جبير وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه ذلك أن اللسان لما كان يعرب عما في الجنان، ويظهره جعل كالشاهد له لأنه آية الفصل والبيان وبه يتلى القرآن. وقال مجاهد: الشاهد هو ملك يحفظ النبي (- ﷺ -) ويسدده والأول أولى.
(ومن قبله) أي القرآن (كتاب موسى) عطف على شاهد والتقدير ويتلوه الشاهد وشاهد آخر وهو كتاب موسى، فهو إن كان متقدماً في النزول فهو يتلو الشاهد في الشهادة، وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخراً في الوجود لكونه وصفاً لازماً غير مفارق فكان أعرق في الوصفية من كتاب موسى.
ومعنى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد ﷺ وأخبر بأنه رسول من الله.
قال الزجاج: والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي ﷺ موصوف في كتاب موسى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وقرئ كتاب موسى بالنصب أي يتلو كتاب موسى جبريل.
(إماماً ورحمة) الإمام هو الذي يؤتم به في أمور الدين ويقتدى به في الأحكام والشرائع، والرحمة النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله
_________
(١) فيه رائحة التشيع.

عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن.
(أولئك) أي المتصفون بتلك الصفة الفاضلة وهو الكون على البينة من الله (يؤمنون به) أي يصدقون بالنبي ﷺ أو بالقرآن (ومن يكفر به) أي بالنبي أو بالقرآن (من الأحزاب) وهم المتحزبون على رسول الله ﷺ من أهل مكة وغيرهم أو المتحزبون من أهل الأديان كلها قال قتادة: الكفار أحزاب كلهم على الكفر.
(فالنار موعده) أي هو من أهل النار لا محالة وفي جعل النار موعداً إشعار بأن فيها ما لا يحيط بها الوصف من أفانين العذاب.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (١) أخرجه البغوي بسنده، قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله حتى بلغني هذا الحديث، فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية.
(فلا تك في مرية منه) أي في شك من كون القرآن نازلاً من عند الله وفيه تعريض بغيره ﷺ لأنه معصوم عن الشك في القرآن أو في شك من الموعد. والمرية بالكسر والضم والأولى لغة الحجاز، وبها قرأ جماهير الناس، والثانية لغة أسد وتميم وبها قرأ السلمي وغيره (إنه الحق من ربك) فلا مدخل للشك منه بحال من الأحوال (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بذلك مع وجوب الإيمان به وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقاً أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلاً.
_________
(١) شرح السنة ١/ ١٠٤.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩)
صفحة رقم 160