
هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما سافرت ولما ونحوه وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله: فمنهم شقي وسعيد ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ثم بين ذلك بقوله: ليوفينهم ربك أعمالهم قال: ما أعرف وجها أشبه من هذا وان كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن».
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٣ الى ١١٧]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
اللغة:
(تَرْكَنُوا) : الركون الى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له

والإنصات اليه وفي المصباح: «ركنت الى زيد اعتمدت عليه وفيه لغات احداها من باب تعب وعليه قوله تعالى: «ولا تركنوا الى الذين ظلموا» وركن ركونا من باب قعد قال الأزهري وليست بالفصيحة، والثالثة ركن يركن بفتحتين وليسب بالأصل بل من باب تداخل اللغتين لأن باب فعل يفعل يكون حلقي العين أو اللام». وقال الراغب:
«والصحيح انه يقال ركن يركن بالفتح فيهما وركن يركن بالكسر في الماضي والفتح في المضارع وبالفتح في الماضي والضم في المضارع» ويؤخذ من القاموس وشرحه وغيره من معاجم اللغة انه من باب دخل ومن باب تعب أما اللازم منه فبابه ركن بضم الكاف أي كان رزينا وقورا.
(زُلَفاً) بضم الزاي وفتح اللام: جمع زلفة من الليل أي طائفة وفي القاموس: الزلفى الطائفة من الليل والجمع زلف وزلفات كغرف وغرفات، قال العجاج:
تاج طواه الأين مما رجفا | طيّ الليالي زلفا فزلفا |
الإعراب:
(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) الواو استئنافية ولا ناهية وتركنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والى الذين جار ومجرور متعلقان بتركنوا وجملة ظلموا صلة، فتمسكم: الفاء السببية وتمسكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء الواقعة صفحة رقم 440

بعد النهي والكاف مفعول به والنار فاعل. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الواو حالية أو استئنافية أيضا والجملة حالية أي تمسكم النار حال انتفاء ناصركم أو مستأنفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور لفظا بالفتحة مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر وثم حرف عطف ولا نافية وتنصرون فعل مضارع ولم ينصبه نسقا على تركنوا لأنه من عطف الجمل عطف جملة فعلية على جملة اسمية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الواو عاطفة وأقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والصلاة مفعول به وطرفي النهار نصب على الظرفية بأقم والمراد بطرفي النهار الغداة والعشي وزلفا منصوب على الظرفية أيضا بأقم ومن الليل صفة. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) إن واسمها وجملة يذهبن خبرها والنون فاعل يذهبن والسيئات مفعول به وذلك مبتدأ وذكرى خبر وللذاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكرى (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) واصبر عطف على أقم والفاء تعليلية وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها وأجر المحسنين مفعول به. (فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) الفاء استئنافية ولولا تحضيضية ولعل اعراب كان تامة أولى إذا المعنى فهلا وجد أو حدث فيتعلق من القرون بها أو بمحذوف حال ومن قبلكم حال من القرون وأولو فاعلها وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وبقية مضاف اليه وجملة ينهون عن الفساد صفة لأولو بقية وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بالفساد وإذا جعلنا كان ناقصة فيكون من القرون متعلقان بمحذوف حال وتكون جملة ينهون خبرها وأولو بقية اسمها والمصدر المقترن بأل يعمل في المفاعيل
صفحة رقم 441
الصريحة فيكون في المؤولة والظروف أولى ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفساد. (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) إلا أداة استثناء وقليلا مستثنى منقطع لئلا يفسد المعنى وننقل هنا عبارة الزمخشري وهي: «معناه ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تركوا النهي» ثم قال: «فإن قلت هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: ان جعلته متصلا على ما هو عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد لا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، يريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل» وممن صفة لقليلا وجملة أنجينا صلة ومنهم حال. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) واتبع عطف على مضمر دل عليه الكلام تقديره فلم ينهوا عن الفساد واتبع، والذين فاعل وجملة ظلموا صلة وما مفعول به وجملة أترفوا صلة وفيه متعلقان بأترفوا وكانوا مجرمين كان واسمها وخبرها والجملة عطف على أترفوا. (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص وربك اسمها وليهلك اللام للجحود وهي المسبوقة بكون منفي ويهلك منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف أي مريدا ليهلك وقد سبق تقرير ذلك والقرى مفعول به وبظلم حال من الفاعل وأهلها الواو حالية وأهلها مبتدأ ومصلحون خبر والجملة حالية من المفعول به أي القرى.
صفحة رقم 442
البلاغة:
في قوله تعالى: «ولا تركنوا الى الذين ظلموا» الى آخر الآية فنون عديدة من البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق وسنبسطها بما يلي:
١- ائتلاف اللفظ مع المعنى:
إذ لما كان الركون الى الذين ظلموا دون فعل الظالمين وجب أن يكون العقاب عليه دون عقاب الظالمين ومسّ النار في الحقيقة دون الإحراق ولما كان الإحراق عقابا للظالم أوجب العدل أن يكون المسّ عقاب الراكن الى الظالم فلهذا عدل عز وجل عن قوله مثلا...
فندخلوا النار، لكون الدخول مظنة الإحراق وخصّ المسّ ليشير به الى ما يقتضي الركون من العقاب ويميز بين ما يستحق الظالم وبين ما يستحق الراكن له من العقاب وإن كان مس النار قد يطلق ويراد به الإحراق لكن هذا الإطلاق مجاز والحقيقة ما ذكرناه لأن حقيقة المس أول ملاقاة الجسم حرارة النار وإذا احتمل اللفظ احتمالات صرف منها الى ما تدل عليه القرائن والائتلاف في هذه الآية معنوي.
٢- الادماج:
فقد أدمج الله سبحانه وصفه بالعدل فتعلق فن الفخر بفن الأدب إذ ظاهر الآية التأديب ومن أجله جاءت في هذا الباب الموعظة ووصف الحق عز وجل بالعدل.

٣- البسط:
فلم يقل الظالمين وعدل عن ذلك الى قوله «الذين ظلموا» لما يحتمل الاول من استمرار الظلم الذي لا يلائم المساس ولا تحصل به المبالغة التي تحصل من لفظ الثاني من وقوع الظلم على سبيل الندور ليلائم المعنى معنى الركون ومعنى المساس وتحصل المبالغة الحقة لأنه سبحانه إذا نهى عن الركون الى من استمر منه الظلم بطريق أولى وإذا نهى عن الركون إلى الظالم كان النهي عن فعل الظلم أحرى.
ونثبت هنا بهذه المناسبة كتاب آية في البلاغة وهو يتناسب مع المقام: لما خالط الزهري السلاطين كتب اليه أخ في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال سبحانه: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه» واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت انك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي، بدنوك ممن لم يؤد حقا، ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليه رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك الى بلائهم، وسلما يصعدون فيك الى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا» فانك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فدا ودينك فقد دخله سقم،